
وائل فايز أبو الحسن – الحوارنيوز
تتجه الولايات المتحدة إلى انتخابات منتصف الولاية في عام ٢٠٢٦ في لحظة سياسية مفصلية، تجعل من هذا الاستحقاق أكثر من مجرد إعادة توزيع مقاعد داخل الكونغرس. فنحن أمام محطة ستحدد حدود النفوذ الحقيقي لإدارة دونالد ترامب في ولايته الثانية، وستكشف مدى قدرة الترامبية على الاستمرار كنموذج حكم، داخليا وخارجيا، في عالم تغيّرت فيه موازين القوى وتآكلت فيه أدوات الهيمنة التقليدية.
ترامب، وهو في البيت الأبيض، لا يحكم فقط عبر المؤسسات، بل عبر شبكة مصالح عابرة للحدود، تقوم على منطق الصفقات لا التفاهمات، وعلى الابتزاز لا التحالفات. هذه الشبكة تضم لوبيات مالية وإعلامية داخل الولايات المتحدة، ومجموعات مصالح دولية، وشخصيات سياسية صاعدة، خصوصا في أمريكا اللاتينية، راهنت على استمرار نفوذه وقدرته على فرض أجندته، مقابل وعود اقتصادية ومالية وامتيازات شخصية. لم يكن هذا الرهان قائما على رؤية سياسية متماسكة، بل على تصور مفاده أن العلاقة مع ترامب يمكن أن تختصر الدولة الأمريكية ومؤسساتها.
في هذا السياق، جرى الترويج لسلسلة من اتفاقيات سلام شكلية، قُدّمت كإنجازات تاريخية، فيما كانت في جوهرها مسرحيات سياسية مدروسة. لم يقتصر الأمر على بعض الدول الأفريقية التي قُدمت فيها أجزاء من الثروات السيادية والموارد الطبيعية ثمنا لتوقيع أوراق والتقاط صور في المكتب البيضاوي، بل انسحب أيضا على آسيا، من محاولات تسويق تفاهمات هشة بين الهند وباكستان، إلى صيغ غير قابلة للحياة بين تايلاند وكمبوديا، وصولا إلى مسرحية شرم الشيخ، واتفاق وقف إطلاق النار في غزة، الذي استُخدم كأداة سياسية وإعلامية أكثر منه مسارا جديا نحو إنهاء الحرب أو معالجة جذور الصراع.
في كل هذه الحالات، كان المشهد واحدا. اتفاقات بلا ضمانات، سلام بلا أسس، وصفقات قبض فيها هذا الزعيم حصته، وقدم ذاك جزءا من موارده، فيما استفادت شركات أمريكية أو كيانات مرتبطة بترامب أو بدائرته الضيقة أو بمقربين من فريقه السياسي والاقتصادي. هكذا تحولت السياسة الخارجية إلى أداة نهب مقنّعة، تُدار تحت شعارات زائفة مثل مكافحة المخدرات، محاربة الكارتيلات، أو دعم الاستقرار، بينما الهدف الفعلي كان إعادة توزيع الموارد والثروات بما يخدم مصالح ضيقة.
غير أن هذا النموذج يصطدم اليوم بجدار الدولة العميقة داخل الولايات المتحدة. فالمؤسسات الأمنية والعسكرية والمالية والبيروقراطية، ومعها قوى كبرى في النظام العالمي القائم، لا ترى في سياسة الصفقات الشخصية ضمانة للاستقرار، بل مصدرا للفوضى وتهديدا للمصالح بعيدة المدى. كما أن جزءا متزايدا من الرأي العام الأمريكي بات أكثر تشككا في جدوى سياسة خارجية تُدار بمنطق اللحظة، وتُغرق الولايات المتحدة في صراعات بلا أفق، أو في تسويات هشة سرعان ما تنهار.
انتخابات ٢٠٢٦ النصفية تأتي هنا كاختبار حاسم. فهي لن تحدد فقط توازن القوى داخل الكونغرس، بل ستقرر حجم القيود المفروضة على الرئيس في ولايته الثانية. فترامب يحتاج إلى أغلبية موالية تتيح له الاستمرار في إدارة السياسة الخارجية خارج الأطر التقليدية، وتمرير الصفقات، وحماية شبكته من المساءلة. غير أن المؤشرات المتراكمة، من فشل حملات التشويه الممولة بملايين الدولارات ضد قوى تقدمية، كما حصل في نيويورك، إلى تراجع فاعلية الخطاب التعبوي، توحي بأن الترامبية قد لا تخرج من هذا الاستحقاق بالزخم الذي دخلت به.
تداعيات ذلك لن تبقى داخل الولايات المتحدة. اليمين الصاعد في أمريكا اللاتينية، والذي بنى جزءا كبيرا من شرعيته وخطابه على التقاطع مع ترامب وإدارته، سيجد نفسه أمام واقع جديد. فمع تقييد نفوذ ترامب داخل الكونغرس بعد انتخابات ٢٠٢٦، ستتقلص قدرته على تقديم الدعم، وستتبدد الوعود الاقتصادية والمالية والامتيازات التي عُقدت عليها الآمال. ومع غياب القدرة على تنفيذ الصفقات، سيسقط كثير من هذه المشاريع عند أول اختبار جدي.
الأمر نفسه ينطبق على شخصيات جرى تسويقها دوليا على أنها معارضة لأنظمة توتاليتارية، فيما كانت في الواقع أوراق تفاوض مؤقتة، تُستخدم حين تقتضي المصلحة، ويُتخلى عنها إذا فرضت صفقة اللحظة الأخيرة نفسها، أو تبدلت موازين القوى. فسياسة ترامب، في جوهرها، لا تعرف ثوابت ولا التزامات، بل منطق الربح والخسارة الآنية.
في المحصلة، ما بُني على الباطل لا يمكن أن يستمر. وفي ظل وجود ترامب في البيت الأبيض خلال ولايته الثانية، فإن انتخابات ٢٠٢٦ النصفية تمثل لحظة مفصلية ستقيّد نفوذه داخل الكونغرس، وتحدّ من قدرته على إدارة السياسة الخارجية بمنطق الصفقة والمصلحة الشخصية. التراجع المحتمل في عدد المقاعد الموالية له لن يكون مجرد خسارة تشريعية، بل بداية تفكك الهيكل الذي بناه على شبكة مصالح ظرفية.
ومع تقلص هامش حركته بعد هذه الانتخابات، سيبدأ الانهيار التدريجي للترامبية العابرة للحدود. تلك الظاهرة التي علّقت عليها قوى وشخصيات كثيرة آمالها، ظنّا أن النفوذ الأمريكي يمكن اختزاله بعلاقة شخصية مع الرئيس. لكن حين تُقيَّد السلطة، وتسقط الوعود، ويتقدّم منطق المؤسسات وموازين القوى، يتضح أن ما قُدّم على أنه مشروع كان في حقيقته حالة ظرفية. والانتخابات النصفية لعام ٢٠٢٦ ستكون، بلا شك، لحظة هذا الانكشاف الكبير.
*محام – مغترب في المكسيك


