
بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

لطالما ارتبط مفهوم الفساد بالمدن الكبرى ومراكز السلطة، وصُوّر على أنّه انحرافٌ أخلاقيٌّ أو سلوكٌ فرديٌّ مدفوعٌ بالجشع. هذه النظرة، التي تركّز على الأبعاد القانونيّة والاقتصاديّة، تتجاهل الأنماط المعقّدة والمتجذّرة للفساد في المجتمعات الريفيّة والمهمّشة. ففي هذه المناطق، قد لا يكون الفساد مجرّد خرقٍ للقانون، بل بنيةٌ اجتماعيةٌ يوميةٌ وآليةٌ للبقاء، تتشكّل بفعل غياب الدولة وضعف المؤسّسات الرسميّة، مما يفرض على الأفراد البحث عن سبلٍ بديلةٍ لتسيير أمورهم الحياتيّة.
يهدف هذا المقال إلى تقديم رؤيةٍ أنثروبولوجيةٍ للفساد، تتجاوز التعريفات القانونيّة التقليديّة، وتنظر إليه كظاهرةٍ اجتماعيةٍّ عميقة الجذور، تتأثر بالسياقات الثقافيّة والاقتصاديّة والسياسيّة. سنستعرض إطارين نظريين رئيسيين: “اقتصاد المجاملة” لجان_ بيير أوليفييه دي ساردان، و”العنف البنيويّ” لأخيل غوبتا، لنفهم كيف يتجلّى الفساد في الهامش، وما هي تداعياته الاجتماعيّة والاقتصاديّة، وكيف يمكن مواجهته بفعاليّة من خلال مقارباتٍ تتجاوز الإطار القانونيّ الضيّق.
الفساد كـ “اقتصاد المجاملة“
يقدم الباحث أوليفييه دي ساردان مفهوم “اقتصاد المجاملة” لفهم الفساد في المجتمعات الريفيّة، خاصة في سياقات غرب أفريقيا. يرى دي ساردان أن ما يُصنَّف دوليًا كـ”فسادٍ” قد يكون في هذه المجتمعات أداة تنظيمٍ اجتماعيّ تحكمه العلاقات الشخصيّة، والنَسَبْ، والمكانة الاجتماعيّة، والتبادلات غير الرسميّة. ففي النّيجر، على سبيل المثال، لا تُعَدّ الهبة للموظف أو الدّفع لتسريع معاملةٍ خرقًا أخلاقيًا بالضرورة من منظور المجتمع المحليّ، بل جزءًا من اقتصادٍ رمزيٍّ تُبنى فيه الثقة والخدمة خارج البيروقراطيّة الرسميّة التي غالبًا ما تكون بطيئةً وغير فعّالةٍ أو غائبةً تمامًا.
تستند هذه المقاربة إلى عدة “لوجيكيات” (Logiciens) اجتماعيّةٍ تبرّر ممارسات الفساد وتدمجها في نسيج الحياة اليوميّ، مما يجعلها مقبولةً اجتماعيًا.
منطق الإحسان والعلاقات الشخصية
في المجتمعات التي تعتمد على الروابط الأسريّة والعشائريّة، يُنظر إلى الفرد كجزءٍ لا يتجزّأ من شبكات تضامنٍ واسعة. وفي ظل غياب المؤسّسات الرسمية القادرة على تقديم الخدمات بفعالية، يصبح تقديم الخدمات عبر هذه الشبكات هو السبيل الوحيد لإنجاز المعاملات. فالهبات الصغيرة للموظفين، والتي قد تُفسّر كرشوةٍ في سياقاتٍ أخرى، تُعْتَبَرُ في هذه المجتمعات تعبيرًا عن الامتنان والتقدير للخدمة المقدّمة. هي ليست رشوة بالمعنى المتعارف عليه، بل إكرامًا أو “كولا” يترجم التقدير المتبادل بين مقدّم الخدمة ومتلقيها.
وقد يُنْظَرُ إلى الإثراء غير المشروع، أو ما يُصنّف كفسادٍ، كوسيلةٍ لتحقيق قيم اجتماعيّة إيجابيّة مثل الكرم والجود. فالفساد يصبح ضروريًا لتمكين الفرد من الوفاء بالتزاماته الاجتماعيّة، مثل دعم الأقارب، أو المساهمة في المناسبات الاجتماعية.
الفساد كـ”عنف بنيوي“
يقدم الباحث أخيل غوبتا مفهوم “العنف البنيوي” لفهم كيف تؤدي هياكل السلطة القائمة، والأنظمة البيروقراطية، والسياسات الحكومية إلى إلحاق الضرر بالفقراء والمهمشين بشكلٍ غير مباشرٍ. يرى غوبتا أن الفقر المدقع يُسْتَدام ويُطَبّعُ من خلال عدم كفاءة النظام، وإهماله، وتجاهله المتعمّد لاحتياجات الفئات الضعيفة، وليس بفعلٍ مقصودٍ من فرد ما. في الهند، على سبيل المثال، تعمل البيروقراطيّة بطريقةٍ مجزّأةٍ وغير منسّقةٍ، مما يؤدي إلى نتائج تعسّفيةٍ ومؤذيةٍ للمواطنين، خاصة أولئك الذين يفتقرون إلى الموارد أو المعرفة للتنقّل في تعقيداتها.
يوضح غوبتا أنّ الفساد ليس مجرّد “ضريبةً” يدفعها الفقراء للحصول على خدماتهم الأساسية، بل هو مجموعةٌ من الممارسات التي يجب عليهم إتقانها “لتشغيل النظام” لصالحهم. هذا السلوك، الذي قد يبدو فسادًا من منظورٍ قانونيٍّ، هو في الواقع أداةٌ ضروريةٌ للبقاء، يلجأ إليها الفقراء لتجاوز الروتين البيروقراطي المعقّد، والحصول على حقوقهم المشروعة، أو حتى مجرّد الوصول إلى الخدمات الأساسيّة مثل الرعاية الصحيّة أو التعليم.
بنية الفساد في المجتمعات المحليّة
في المناطق المهمّشة، حيث يغيب حضور الدولة الفعّال، وتكون المؤسّسات الرسميّة ضعيفةً أو غير موجودةٍ، يصبح الفساد ضرورةً للبقاء. السكّان يضطرون للدّفع أو تقديم الهدايا لتسيير أمورهم اليومية. الفساد هنا ليس دائمًا انتهاكًا أخلاقيًا من منظور المجتمع، بل قد يكون “شكلًا من العدالة البديلة” التي تعوّض غياب الدولة وتضمن الحدّ الأدنى من الخدمات الضروريّة للحياة. المجتمعات الفقيرة هي الأكثر تضررًا من هذا الوضع، حيث لا يمتلكون الأموال أو العلاقات اللازمة “لتسيير أمورهم”، ممّا يزيد من معاناتهم ويجعلهم أكثر عرضةً للاستغلال.
تُعدّ شبكات الوساطة والقرابة والعشائريّة والعائليّة “نظامًا بديلًا” للعدالة غير الرسميّة، حيث يلجأ الأفراد إليها لحلّ النزاعات، أو للحصول على الخدمات، أو لتأمين مصالحهم. يثق الناس في “من يعرف الطريق”، أي الأفراد الذين لديهم نفوذٌ وعلاقاتٌ داخل هذه الشبكات، ويلجأون إلى هذه النّظم لأنها أكثر سهولةً في الوصول، وأسرع، وأكثر ثقةً من الأنظمة الرسمية. ومع ذلك، يمكن أن تؤدّي هذه النّظم إلى ترسيخ ديناميكيات القوة غير المتكافئة، وقد تستغلّ النّخب المحليّة مكانتها للسيطرة على مشاريع التنمية والمساعدات، وتحويلها لصالحها أو لصالح أتباعها.
علاوةً على ذلك، الفساد في الأطراف لا يتكوّن دائمًا من الداخل، بل قد يكون “مُسْقَطًا” من المركز. تعمل الزعامات المحلّية، مثل المخاتير ورؤساء البلديات وجهاء القرى أو شيوخ العشائر أو وجهاء العائلات، كوسطاء انتخابيين بين النّخب الحاكمة في المدن والسكّان المهمشين في الريف. تُستخدم البلديات والمؤسّسات المحلّية لتبادل الموارد والامتيازات مقابل الولاء السياسي، ما يخلق نظامًا من المحسوبيّة والزبائنيّة. هذا النمط يُعيد إنتاج مفهوم “المواطن الزبون”، حيث لا تُبنى علاقة المواطن بالدولة على الحقوق والمواطنة المتساوية، بل على “الفضل السياسيّ” والعلاقات الشخصيّة.

تداعيات الفساد الاجتماعيّة والاقتصاديّة
تتجلّى تداعيات الفساد بشكلٍ حادٍّ في المجتمعات الريفيّة والمهمّشة، حيث يفاقم الفقر ويزيد من عدم المساواة. يتسبّب في تركّز الثروة والسّلطة في أيدي فئةٍ أقليّةٍ، ويحرف المشاريع الاستثماريّة والتنمويّة بعيدًا عن المناطق التي تحتاجها بشدّة، ويوجّهها نحو مصالح شخصيّة أو سياسيّة. كما يؤدّي إلى تدني جودة الخدمات الأساسيّة، ويُجبر الفقراء على دفع مبالغ غير مشروعة للحصول على حقوقهم الأساسية.
على المستوى الاجتماعيّ، يُضعف الفساد ثقة المواطنين في النظام القضائيّ والمؤسّسات الرسميّة، ممّا يؤدّي إلى تآكل الشرعيّة الحكوميّة. وعندما تُصبح منظومة العدالة نفسها عرضةً للفساد، فإنّها تفقد مصداقيتها وتصبح غير قادرةٍ على حماية حقوق المواطنين أو فرض سيادة القانون. هذا التآكل في الثقة يُفسح المجال لنظامٍ بديلٍ يقوم على العلاقات الشخصية والوساطة، مما يُعمّق الفساد ويجعله أكثر صعوبةً في المكافحة.
استراتيجيّات لمواجهة الفساد: ما بعد المقاربة القانونيّة
تفشل الاستراتيجيات التقليدية لمكافحة الفساد، التي تعتمد بشكلٍ أساسيٍّ على القوانين والعقوبات الصارمة، لأنها تفترض أنَّ الفساد هو مجرّد انحرافٍ سلوكيٍّ فرديٍّ، بينما هو في الواقع جزءٌ من نظامٍ اجتماعيٍّ وقيميٍّ معقدٍ. هذهِ المقاربات غالبًا ما تكون “مستوردةً” من سياقاتٍ مختلفةٍ ولا تتناسب مع “القواعد المطبّقة فعليًا” في المجتمعات المحلية.
في مواجهة هذا القصور، يسلَّط الضوء على “المساءلة الاجتماعية” كإطارٍ عملٍ بديلٍ وأكثر فاعليةً. هذا المفهومُ يُعنى بتمكين المواطنين وتزويدهم بالأدوات والآليات اللازمة للمشاركة في مراقبة الحكومة ومحاسبتِها على أدائها وشفافيتها. من الأمثلة على أدوات المساءلة الاجتماعية: الميزانيات التشاركية، وبطاقات تقارير المجتمع، ولجان المواطنين.
يمكن تعزيز جهود مكافحة الفساد من خلال مجموعةٍ من الإجراءات المتكاملة، تبدأ بالتعليم والتوعية من اجل خلق ثقافة رافضة للفساد على جميع المستويات الاجتماعيّة، وتعزيز الوعي بحقوق المواطنين وواجباتهم. وتبسيط البيروقراطية، للحدّ من الروتين واللوائح غير الضرورية التي توفّر فرصًا للفساد، وتسهيل وصول المواطنين إلى الخدمات الحكومية. والاستفادة من التكنولوجيا، لتعزيز الشفافيّة والمشاركة المدنيّة، من خلال تطوير منصاتٍ إلكترونيةٍ للإبلاغ عن الفساد، أو لمراقبة الإنفاق العام. إضافةً إلى تحسين ظروف الموظفين لتقليل الضغط عليهم لاستكمال دَخْلِهِم بطرق غير رسمية، من خلال توفير رواتب عادلة، وظروف عملٍ مناسبة.
ولكن، يجب التأكيد على أنّ الاستراتيجيّات المجتمعيّة المحلّية وحدها غير كافية لمواجهة الفساد “المُسقَط” من المركز. لذلك، يجب تبني نهجٍ متعدّد المستويات يجمع بين تمكين المجتمعات المحلّية والإصلاحات الهيكليّة على المستوى الوطنيّ، بما في ذلك تعزيز استقلالية القضاء، وتطبيق قوانين مكافحة الفساد بصرامةٍ، ومحاسبة المسؤولين الفاسدين.
نحو فهم جديد للعدالة
يُظْهِر هذا التحليل أنّ الفساد في المجتمعات الريفيّة والمهمّشة ظاهرة معقدة ومتعدّدة الأبعاد، لا يمكن فهمها بمعزلٍ عن السياقات الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. إنّه ليس مجرّد انحرافٍ قانونيٍّ، بل ناتج عن ضعفٍ بنيويٍّ، يتجلّى في غياب الدولة، وفي أنظمة العدالة الرسميّة غير الفعّالة، وفي الحاجة الملحّة للبقاء. هذا الفهم يعيد تأطير ممارساتٍ مثل الرّشوة والواسطة من أفعالٍ مدانةٍ إلى وسائل ضرورية للبقاء، أو “عدالة بديلة” يلجأ إليها الأفراد في غياب البدائل الرسمية.
إنّ مكافحة الفساد الفعّالة لا يمكن أن تبدأ من القوانين وحدها، بل يجب أن تنطلق من إعادة بناء العلاقة بين الدولة والهامش، ومن فهم أن العدالة ليست مجرّد نصٍّ قانونيٍّ جامدٍ، بل “تجربةً اجتماعيةً معاشةٍ” تتأثر بالواقع اليوميّ للأفراد. وعليه، فإن التوصيات لمواجهة هذه الظاهرة يجب أن تكون شاملة، تجمع بين الإصلاحات الهيكليّة الحكوميّة على المستوى المركزي وتمكين المجتمعات المحليّة على المستوى القاعديّ. وتعزيز المساءلة الاجتماعية لتقوية قدرات المواطنين على مراقبة ومحاسبة مؤسّسات الدولة، وتعزيز دور المجتمع المدني في مكافحة الفساد. والسعي لأن تكون برامج مكافحة الفساد مبنية على فهم عميق للواقع، تُبنى على فهم لـ”اقتصاد المجاملة” و”العنف البنيويّ”، وتأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية والاجتماعية للمجتمعات المستهدفة. وتعزيز الثقة في المؤسّسات الرسميّة، من خلال الشفافيّة، وتقليل الروتين، وتحسين جودة الخدمات، وإتاحة الوصول إليها للجميع.
المراجع:
- Gupta, A. (2012). Red tape: Bureaucracy, power, and the practice of politics in India. Duke University Press.
- Olivier de Sardan, J.-P. (2009). A moral economy of corruption? The Journal of Modern African Studies, 47(1), 21–43.
- Eisenstadt, S. N., & Roniger, L. (1984). Patrons, clients and friends: Interpersonal relations and the structure of trust in society. Cambridge University Press.
- World Bank. (2004). Social accountability: An introduction to the concept and its practices. The World Bank.



