رأي

النفاق السياسي ووعود الشياطين (فرح وسى)

 

أ.د.فرح موسى – الحوارنيوز

 

حينما تتحول السياسةُ إلى مجرد فن من فنون الإدارة والتدبير، تخرج عن كونها تعبيرًا إيمانيًا،وإنسانيًا،لتصبح إداة للقهر والتسلط والاستخفاف،حتى تكون لها طاعة العبيد،كما فعل فرعون،وكما قال تعالى:”فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قومًا فاسقين.”.ولعل هذا النوع من السياسة هو ما ألفته البشرية في تاريخها..!!!

أما في أصل نشوئها،فهي إنما كانت لأجل تربية المجتمع وتحقيقه بما يلزم من معاني الحياة والقيم والمبادىء السامية،التي تساعد الإنسان على التحقق في وجوده وانتظام أموره؛وفقًا لفلسفة في السياسة تُعنى بالوجود والحق والعدالة،وأين هذا مما تجرّدت منه السياسة، لتكون مجرد فن وإدارة وتلاعب بمصائر الناس!؟

فالتاريخ البشري انكشف عن تجربتين في السياسة،تجربة الأنبياء والرسل.وتجربة الفراعنة والطواغيت.ولهذا نجد شعوب الأرض قد انقسمت بين هاتين التجربتين؛فأخذ كل شعب،وكل أمة بما يلائمها من مقتضيات السياسة.ولا شك في أن تعبيرات الضرورة هي التي كانت تحكم معايير التدبير والانتظام في كثير من تحولات الأمم؛وكانت النبوات تأتي لإعطاء السياسة بعدها الشمولي،بل الوجودي،فأخرجت السياسة من نطاق الضرورات،لتجعل منها منهجًا في الحياة،حيث أنها أعطت السياسة بعدها التكاملي،فضلًا عما لها من معاني التدبير والانتظام،ومع النبوات ظهرت السياسات ذات المحتوى الثقافي والإيماني؛ولهذا،قيل:إن الذي يعطي السلطة والقوانين الشرعية،هو ما يكون عليه الناس من محتوى وانتماء.

وبما أن الناس قد اتخذوا من الدين،أي دين،شرعية لحياتهم وإدارة أمورهم،فلم يعد ممكنًا إنتاج السياسة وفق التقاليدوالأعراف،لأن الناس خرجوا من واقع كونهم يعيشون ضرورات الحياة لينعموا بالتحقق الديني بكل ما يعنيه من انتماء،ولعلنا هنا نقف أمام مفارقة عجيبة،وهي أن سياسات مجتمعاتنا اليوم،والتي تسمى بالمعاصرة، تتعايش مع سياسات غير منتجة ثقافيًا وإيمانيًا،بل نراها في شأنها السياسي تخرج نهائيًا عن انتمائها الديني،بمعنى أن أكثر الأمم اليوم تعبر عن نفسها من خارج محتواها الثقافي!وتنتج سياسات هي أبعد ما تكون عن الرؤية الدينية والمنهج الديني!،وهذا ما شكل التباسًا حقيقيًا في واقع هذه الأمم،فلم ينعكس الإيمان على السياسة،لا في المجتمع،ولا في الدولة،وتحول الدين إلى مجرد طقوس وعادات،هذا إذا لم يكن الدين الذي اعتمده الناس في مدارسهم وجامعاتهم،قد أحدث تحوًلا خطيرًا في وعيهم؛لجهة ما آل إليه من تفرق في الدين،بخلاف ما أمر الله به في قوله تعالى:”أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه..”،فإذا كان لمجتمعاتنا اليوم أن تعقل شيئًا،فليس لها سوى أن تعيد قراءة ذاتها في ضوء ما تتعايش معه من تحولات دينية وسياسية،لعلها بذلك تدرك أن الدين في حقيقته لا ينتج تفرقًا في الرؤية والأهداف؛ويمنع من سياسة النفاق في التعبير عن نفسه،كما أنه يُقصي الشياطين عن أن يكون لهم أي دور في إدارة شوون الناس ورعاية أمورهم!

فالسياسة هي عمل عبادي في كل ما تعبر عنه في الواقع،وهذا ما عهده أهل الإيمان من شرائعهم،فكيف يمكن لحاكم يدّعي الإيمان تجاوز حقيقة الموقف الديني في ما يؤديه من سياسة في الدولة،أو في المجتمع؟،فكل شيء خاضع للشريعة عند أهل الإيمان،أما وقد هجر الدين،فمقتضى ذلك التحول في السياسة لتأتي من خارج المحتوى الديني؛وهذا ما نرى أن المجتمعات الدينية قد خضعت له في تجاربها السياسية؛أنها اعتمدت العبادة وتجاهلت السياسة،وكأن الدين والشريعة شيء،والسياسة شيء آخر،وكلنا يعلم يقينًا أن الأنبياء لم يتركوا السياسة للطواغيت وأهل النفاق!؟ بل كان الموقف دائمًا أن يتغيّر الواقع وفقًا لشمولية الرؤية في الدين والدنيا.

لقد سبق لفرعون أن اتهم النبي موسى (ع) أنه يدعو الناس إلى سياسات من شأنها أن تبدِّل في حياة الناس،فقال تعالى:”إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يُظهر في الأرض الفساد..”.فلو تدبّرنا في ما آلت إليه أمورنا اليوم ،لوجدنا أنها لا تختلف في شيء عما كانت عليه مجتمعات الفراعنة،رغم كل ما تدّعيه من التزامات دينية وتعبيرات إيمانية،إذ إن كل ما نعايشه اليوم يبقى في الكثير منه محكومًا للنفاق السياسي،ولوعود فرعونية في الإصلاح الديني والسياسي. وهذا ما أدى بنا تاريخيًا ،وحاضرًا ،إلى أن تكون مقدسات أهل الإيمان عرضة لكل احتلال وعدوان!فهل هذا يدل على صدق في السياسة وعلى انتماء في الدين؟

إن ما ينبغي تعقله اليوم،وفي أجواء ما نتعايش معه من نفاق سياسي،وهجران ديني،هو الوعي بحقيقة أن الشياطين ليست لهم وعود من خارج إرادات الناس واختياراتهم، فلا بأس من التنبه إلى كل سياسة تتخذ من الدين شرعيةً لها، للتعبير عن إيمان الناس،وخصوصًا تلك السياسات التي تقدّس الحاكم وتعطيه بعدية الدين،وتمنحه أنموذجية الموقف والرؤية، ويكون كل شيء في نفسه،وفي كل ما يحيط به تعبيراً عن إرادة الشيطان!وهل عهدنا في تاريخنا السياسي أن المجتمعات البشرية قد أحسنت لنفسها في اختيارات الدين والسياسة!اللهم إلا ما ندر،حيث ظهرت إلى الوجود نماذج من السياسة تمكن أهلها من إقصاء الشياطين لتكون لها تحولات مختلفة في الدين والسياسة،تمامًا كما هو حاصل اليوم في مواجهة شياطين الغرب والشرق،وغيرهم من الحكام العرب الذين تميزوا في النفاق الديني والسياسي. فالشيطان ليس لعنة في الوجود والتاريخ وحسب ،وإنما هو مخلوق حقيقي له من السيلان والتمثل ما يجعله وحيًا متلبّسًا بالعقول والنفوس على النحو الذي يعطيه كل الحضور والفاعلية في كل إدارة وسياسة. فإذا لم نتعوّذ منه في حياتنا الدينية والسياسية،وفي إدارة أمورنا وتنظيم شؤوننا،فلا يلبث هذا الشيطان أن يتحول في كل حين إلى حاكم باسم الدين!وقد سبق لأمة العرب والمسلمين أن ابتليت بالشيطان حاكمًا حين ادّعى لنفسه ملك الزمان والمكان والتاريخ وكل الحياة. وما حياتنا اليوم ببعيدة عما جعله الشياطين لأنفسهم من هالة الدين والسياسة وصدقية الموقف في التحرير،وهم ألدّ الأعداء للقدس وفلسطين!!!والسلام

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى