النظام المصرفي الرقمي : هل يجتاح لبنان كما يجتاح العالم ؟ (عماد عكوش)

بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز
النظام المصرفي الرقمي ليس مجرد تطبيق على هاتفك ، بل هو تحول جذري في كيفية تقديم الخدمات المالية ، إنه نظام يقوم بشكل كامل على المنصات الرقمية ، متجاوزًا الحاجة إلى الفروع التقليدية في معظم المعاملات ، ويشمل هذا كل شيء مثل فتح الحسابات ، التحويلات ، الدفع ، الادخار ، الاستثمار ، والحصول على القروض ، وجميعها تتم عبر الإنترنت.
يقوم النظام المصرفي الرقمي على عدة ركائز أساسية :
– البنية التحتية التكنولوجية : الاعتماد على الحوسبة السحابية (Cloud Computing) لضمان المرونة والقدرة على التوسع ، والبيانات الضخمة (Big Data) لتحليل المعلومات .
– واجهات البرمجة (APIs) : تسمح لخدمات المصرف او الشركة المالية بالاتصال بسلاسة مع تطبيقات أخرى (مثل تطبيقات المدفوعات أو المحافظ الإلكترونية)، مما يخلق نظامًا ماليًا متكاملاً.
– الأمن السيبراني : استخدام أحدث تقنيات التشفير ، المصادقة متعددة العوامل ، والبيومتريك (بصمة الوجه/الإصبع) لحماية البيانات والمعاملات.
– تجربة المستخدم (UX/UI) : تصميم واجهات بسيطة وسهلة الاستخدام تجعل التعامل المصرفي سلسًا ومباشرًا.
من العوامل التي تساعد على نجاح النظام المصرفي الرقمي :
– بنية تحتية رقمية قوية : وجود إنترنت سريع وموثوق وشبكة اتصالات متطورة.
– إطار تنظيمي واضح : وجود قوانين ولوائح من البنك المركزي تدعم الابتكار المالي وتحمي حقوق المستهلك.
– الثقافة والثقة : ثقافة مجتمعية منفتحة على التعاملات الرقمية، وثقة المواطن في أمن وسرية معاملاته.
– الشمول المالي : قدرة النظام على خدمة شريحة واسعة من المجتمع ، ممن لا يملكون حسابات بنكية تقليدية.
من النقاط الإيجابية التي يؤمنها هذا النظام :
– إجراء المعاملات على مدار الساعة من أي مكان.
– تخفيض التكاليف التشغيلية للبنوك (مثل إيجارات الفروع ورواتب الموظفين)، مما قد ينعكس على رسوم أقل للعملاء.
– وصول الخدمات المالية إلى المناطق النائية والفئات المحرومة من الخدمات المصرفية التقليدية.
– تسجيل المعاملات بدقة وسهولة تتبعها.
هذا النظام كما له نقاط قوة هو ايضا” له نقاط ضعف ومن هذه النقاط :
– يعد هدفًا جذابًا للهجمات والقرصنة.
– قد يستبعد كبار السن أو غير المتعلمين رقميًا أو من لا يملكون هواتف ذكية أو إنترنت.
– أي انقطاع في التيار الكهربائي أو شبكة الإنترنت يعطل الخدمة بالكامل.
– يمكن للتصيد الاحتيالي وسرقة الهوية أن تؤدي إلى خسائر فادحة إذا لم يكن المستخدمون حذرين.
لكن هل يمنع هذا النظام التهرب الضريبي وغسيل الأموال؟ هذا سؤال محوري وللإجابة عليه يجب فهم أن النظام المصرفي الرقمي هو سيف ذو حدين في هذا المجال فهو يمكن أن يكون أداة فعالة لمكافحة هذه الجرائم. تقنيات مثل البلوكتشين توفر سجلاً غير قابل للتعديل للمعاملات. كما أن تحليلات البيانات الضخمة والذكاء الاصطناعي يمكنها كشف الأنماط غير الاعتيادية والمشبوهة للمعاملات بفعالية وكفاءة أعلى من الطرق التقليدية ، لكنه في نفس الوقت قد يفتح النظام غير المنظم أبوابًا جديدة للجريمة من خلال تحويل الأموال بسرعة عبر الحدود وإخفاء الهوية بدرجات متفاوتة.
لذلك نقول ان النظام المصرفي الرقمي لا يمنع الجريمة المالية تلقائيًا ، فعاليته في هذا المجال تعتمد كليًا على قوة التنظيم والرقابة ودمج تقنيات المراقبة .
هل يحتاج هذا النظام إلى قرار سياسي في عملية دخوله الاسواق المالية اللبنانية أم أنه سيدخل الحياة الاقتصادية دون استئذان؟
نعم هو يحتاج إلى قرار سياسي وتنظيمي ، اذ ان فكرة أن النظام المصرفي الرقمي سيدخل “دون استئذان” هي فكرة خاطئة عندما يتعلق الأمر بالنظام بأكمله. بينما يمكن للمحافظ الإلكترونية والتطبيقات المالية أن تنتشر بشكل عضوي ، فإن إنشاء نظام مصرفي رقمي مرخص ومنظم وآمن يتطلب :
– قرارًا سياسيًا يضع استراتيجية وطنية للتحول الرقمي في القطاع المالي.
– إطارًا تشريعيًا من قبل البنك المركزي والجهات التشريعية (مثل “قانون التوقيع الإلكتروني”، “قانون حماية البيانات”، ولوائح “المصارف الرقمية”).
– رقابة مستمرة لضمان الاستقرار المالي وحماية المودعين.
بدون هذا الإطار التنظيمي، سيكون النظام فوضويًا وخطيرًا.
ان تنظيم هذا القطاع هو الضمانة الأساسية لمنع الفوضى ، حيث ان التنظيم الجيد يساعد على :
– حماية أموال المودعين من خلال اشتراط حد أدنى من رأس المال ومتطلبات الأمان.
– ضمان المنافسة العادلة بين البنوك الرقمية والتقليدية.
– منع الاحتيال وغسيل الأموال من خلال فرض معايير للإبلاغ والرقابة.
– بناء الثقة في النظام المالي ككل.
بدون تنظيم ستكون الساحة مفتوحة للاحتيال ، انهيار المؤسسات غير الرقيمة ، وفقدان كامل للثقة في النظام المالي.
بشكل عام. يعتبر التحول نحو النظام المصرفي الرقمي مصلحة لبنانية لأنه :
– يحفز النمو الاقتصادي من خلال تبسيط المعاملات وتخفيض تكاليفها.
– يعزز الشمول المالي، مما يسحب شريحة كبيرة من غير المتعاملين مع البنوك إلى الاقتصاد الرسمي.
– يدفع عجلة الابتكار في قطاع الخدمات المالية والتكنولوجيا.
– يعزز الشفافية في التدفقات المالية على المستوى المحلي .
يمكن أن يكون النظام المصرفي الرقمي أحد سبل إنقاذ وتعافي القطاع المالي في لبنان، ولكن بشروط صعبة منها :
– الإصلاح السياسي والاقتصادي أولاً حيث يجب معالجة الأزمة الاقتصادية والمالية الحادة ، وإعادة بناء الثقة في أي مؤسسة مالية، وهو التحدي الأكبر.
– استقرار البنية التحتية مثل ضمان كهرباء واتصالات مستقرين ودائمين.
– قرار تنظيمي جريء حيث انه على البنك المركزي اللبناني إصدار لوائح واضحة وطموحة للمصارف الرقمية.
– الشفافية حيث يمكن للنظام الرقمي إذا طُبّق بشفافية، أن يكون بداية لكسر دائرة الاقتصاد غير الرسمي والفساد.
بدون هذه الشروط، سيكون أي حديث عن النظام المصرفي الرقمي في لبنان مجرد نظرية بعيدة عن الواقع وقد بدأت بعض المصارف تطبيق بعض الخدمات الرقمية ولا سيما منها بنك عودة ، فرنسبنك ومصارف اخرى لكن في ظل الوضع السياسي والمالي الحالي في لبنان ، حيث انعدمت الثقة تقريبًا بالنظام المصرفي التقليدي، يجب أن تركز رسالة إقناع اللبناني على الفرق الجوهري والشفافية مثل التركيز على الأمان والخصوصية وشرح التقنيات المتطورة (التشفير، البصمة) التي تجعل حساباتك أكثر أمانًا من حفظ النقود في المنزل ، إبراز مكاسب الثورة على الفساد وتقديمه كأداة للشفافية، حيث يصبح تتبع الأموال أكثر صعوبة على الفاسدين وأسهل للجهات الرقابية ، التوعية بالمزايا الملموسة مثل ادفع فواتيرك دون طوابير ، احصل على قرض بضغطة زر ، أرسل وتحويل لأبنك في الخارج بلحظات ، الاعتراف بالمخاوف ومعالجتها فبدلا” من تجاهل مخاوف الناس من القرصنة أو التعقيد، يجب إنشاء قنوات توعوية مباشرة تشرح كيفية الحماية وتقدم الدعم الفني ، وأخيرا” الشراكة مع وجوه موثوقة والاستعانة بشخصيات مؤثرة وموثوقة لنشر التوعية وبناء الثقة.
النظام المصرفي الرقمي هو مستقبل المال على مستوى العالم . بالنسبة للبنان ، يمثل فرصة تاريخية لإعادة البناء على أسس أكثر حداثة وشفافية ، لكنه يظل رهن إرادة سياسية حقيقية للإصلاح وخاصة الاصلاح السياسي والذي يعطل كل اصلاح اقتصادي ووضع الأسس السليمة لهذا التحول الكبير.



