النصوص الدستورية والقانونية الناظمة لإقرار الموازنة في لبنان
تعرف المادة الثالثة من قانون المحاسبة العمومية الموازنة بأنها صك تشريعي تقدّر فيه نفقات الدولة وإيراداتها عن سنة مقبلة وتجاز بموجبه الجباية والإنفاق.والموازنة تعكس من خلال الأرقام التي تحتويها سياسة الحكومة وتوجهاتها على الصعد السياسية والإقتصادية والإجتماعية وغيرها.
يتضمن التعريف المذكور عدة عناصر أهمها:
-أولوية النفقات، حيث أن الدولة تحدد مواردها المالية استناداً إلى النفقات التي قدّرتها.
– إجازة البرلمان للحكومة بجباية الواردات وان تنفق في حدود الإعتمادات التي وافق عليها المجلس والمفصّلة في جدول الموازنة.
– سنوية الموازنة، أي أن الموازنة توضع لمدة سنة واحدة فقط وهذا الإذن المعطى للحكومة بالجباية والإنفاق ينتهي بانتهاء السنة، والسنة المالية في لبنان هي نفسها السنة الميلادية.
والحكومة هي السلطة الدستورية المختصة بإعداد الموازنة لأنها هي الجهة التي تجبي الواردات وتنفق الإعتمادات، وكي يتم إقرار الموازنة بشكلها النهائي فإن هذا الأمر يحتاج إلى مراحل عديدة محكومة بمهل قانونية ودستورية، كما أن عملية وضع الموزانة وإقرارها هي إحدى صور التعاون بين السلطتين التشريعية والتنفيذية الذي يشكل ركناً أساسياً من أركان نظامنا السياسي البرلماني القائم على مبدأ الفصل بين السلطات وتعاونها وتوازنها.
أولى خطوات إعداد الموازنة تبدأ في الوزارات، حيث يضع كل وزير موازنة خاصة بوزارته تتضمن نفقات وزارته المتوقعة للسنة المقبلة، مرفقة بالمستندات والوثائق والإحصاءات والإيضاحات اللازمة لتبرير كل إعتماد من الإعتمادات التي يطلبها، ويحيلها إلى وزارة المالية قبل نهاية شهر أيار. كذلك فإن وزارة المالية تقوم كبقية الوزارات بوضع مشروع لموازنتها الخاصة، إلاّ أن ما يميزها عن بقية الوزارات أنها هي التي تضع تقديرات الواردات العامة للسنة المقبلة.في حين ان أي وزارة تضع فقط تقدير لنفقاتها.
تقوم وزارة المالية أيضاً بدور هام لناحية مناقشة مشاريع موازنات الوزارات حيث تقوم (مديرية الموازنة ومراقبة عقد النفقات) بالتدقيق في طلبات الإعتمادات الواردة من الوزارات ومناقشتها مع كل وزارة في ضوء المستندات التي قدمتها من أجل تأمين التوازن بين النفقات والإيرادات، حيث أن مبدأ التوازن بين النفقات والإيرادات هو من المبادئ الهامة والأساسية التي تحرص وزارة المالية على التقيد به لدى إعدادها لمشروع الموازنة.
إستناداً إلى هذه المناقشات تضع المديرية مشروع الموازنة المتضمن الأرقام الإجمالية للنفقات والإيرادات العامة وترفعه إلى وزير المالية، فإذا كان التوازن موجوداً بين أرقام النفقات وأرقام الإيرادات فلا يوجد إشكالية، اما إذا كان هذا التوازن مفقوداً، يلجأ وزير المالية إلى التباحث مع زملائه لإقناعهم بشأن تخفيض الإعتمادات التي يطلبونها من أجل تحقيق التوازن المطلوب. وإذا لم ينجح الموضوع يتم رفعه إلى مجلس الوزراء يناقش وجهات نظر وزير المالية والوزراء المعنيين ويبت في الخلاف ويعدّل ما يجب تعديله ويناقش مشروع الموازنة بكامله ويوافق عليه من أجل إحالته إلى المجلس النيابي متخذاً صيغة مشروع قانون الموازنة العامة.
إن خطوات إعداد الموازنة العامة وإقرارها مرتبطة بمهل دستورية وقانونية، حيث نصت المادة (17) من قانون المحاسبة العمومية على أن يقد م وزير المالية مشروع الموازنة إلى مجلس الوزراء قبل أول أيلول مشفوعاً بتقرير يحلل فيه الإعتمادات المطلوبة والفروقات بين أرقام المشروع وبين أرقام موازنة السنة الجارية، وهذا التقرير يختلف عن (فذلكة الموازنة) التي يضعها وزير المالية ويقدمها إلى المجلس النيابي، ذلك أنه بعد إقرار الحكومة لمشروع الموازنة في صيغتها النهائية يعد وزير المالية (فذلكة الموازنة) ويقدمها إلى المجلس النيابي، وهذا ما نصت عليه المادة (18) من قانون المحاسبة العمومية بقولها: يقدم وزير المالية الى السلطة التشريعية قبل الأول من تشرين الثاني تقريراً مفصلاً عن الحالة الإقتصادية والمالية في البلاد وعن المبادئ التي اعتمدتها الحكومة في مشروع الموازنة".
أما من جهة النصوص الدستورية فقد نصت المادة (83) من الدستور على الموعد المحدد للحكومة من أجل تقديم مشروع قانون الموازنة الى المجلس النيابي إذ جاء فيها: "كل سنة في بدء عقد تشرين تقدم الحكومة لمجلس النواب موازنة شاملة نفقات الدولة ودخلها عن السنة القادمة…" فمتى يبدأ عقد تشرين؟
نصت المادة (32) من الدستور على الاجتماعات العادية للمجلس النيابي الذي يجتمع في عقدين عاديين ومما ورد فيها: "يجتمع المجلس في كل سنة في عقدين عاديين، فالعقد الأول يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر آذار وتتوالى جلساته حتى نهاية شهر أيار والعقد الثاني يبتدئ يوم الثلاثاء الذي يلي الخامس عشر من شهر تشرين الأول وتخصص جلساته بالبحث في الموازنة والتصويت عليها قبل كل عمل آخر، وتدوم مدة هذا العقد الى آخر السنة"، والعقد الثاني هو المعروف بعقد تشرين.
إذاً بعد أن تقدّم الحكومة مشروع قانون الموازنة إلى رئيس المجلس النيابي يحيله إلى لجنة المال والموازنة المؤلفة من 17 عضواً، فتبحث في المشروع ويحق لها أن تقبل أو تعدّل أو ترفض المشروع، ولكن يمنع عليها أن تزيد في النفقات، بينما يحق لها أن تنقل الإعتمادات من باب إلى آخر أو من فصل إلى فصل أو من بند إلى بند، دون أن يؤدي ذلك إلى زيادة في أرقام الموازنة العامة.
بعد انتهاء لجنة المال والموازنة من دراسة ومناقشة مشروع قانون الموازنة المرسل من الحكومة تضع تقريراً مفصّلاً يتضمن التعديلات التي أدخلتها والإقتراحات التي أبدتها، وعندما يتسلم رئيس المجلس مشروع الموازنة مع تقرير اللجنة يدعو المجلس إلى جلسة عامة لمناقشته والتصويت عليه، حيث يناقشه النواب بشكل تفصيلي، فتتم مناقشة النفقات والتصويت على الأرقام بنداً بنداً وفقاً لما تنص عليه المادة 83 من الدستور، ثم يتم الإنتقال الى التصويت على الواردات ثم إقرار قانون الموازنة الذي يحتاج إلى عملية إصداره من قبل رئيس الجمهورية ونشره في الجريدة الرسمية.
في هذا السياق يطرح السؤال حول ماذا لو لم يتمكن المجلس النيابي من إقرار الموازنة خلال المعقد المخصص لها، أي عقد تشرين؟
أجابت المادة 86 من الدستور على هذا الموضوع حيث جاء فيها ما يلي:"إذا لم يبت المجلس النيابي نهائياً في مشروع الموازنة قبل الإنتهاء من العقد المعين لدرسه فرئيس الجمهورية بالإتفاق مع رئيس الحكومة يدعو المجلس فوراً لعقد إستثنائي يستمر لغاية نهاية كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة وإذا انقضى العقد الإستثنائي هذا ولم يبت نهائياً في مشروع الموازنة فلمجلس الوزراء ان يتخذ قراراً، يصدر بناء عليه رئيس الجمهورية، مرسوم يجعل بموجبه المشروع بالشكل الذي تقدم به الى المجلس مرعياً ومعمولاً به. ولا يجوز لمجلس الوزراء أن يستعمل هذا الحق إلا إذا كان مشروع الموازنة قد طرح على المجلس قبل بداية عقده بخمسة عشر يوماً على الأقل".
تفيد هذه المادة أن السلطة التنفيذية لا يمكنها أن تضع الموازنة موضع التنفيذ إذا تأخرت السلطة التشريعية في إقرارها إلاّ إذا توافرت الشروط الثلاث التالية:
تقديم الحكومة مشروع الموازنة للمجلس النيابي قبل بدء العقد المخصص لدراسة الموازنة بخمسة عشر يوماً على الأقل، وكما ذكرنا فإن هذا العقد يبدأ يوم الثلاثاء الذي يلي (15) تشرين الأول.
إنعقاد المجلس النيابي بعقد إستثنائي في شهر كانون الثاني لمتابعة درس الموازنة.
إنقضاء هذا العقد الإستثنائي بدون إقرار الموازنة.
إن قانون الموازنة يعطي للحكومة الإذن بالجباية والإنفاق خلال سنة كاملة، أي ان هذه الإجازة سنوية تنتهي بانتهاء السنة، ولا يحق للحكومة أن تنفق أو تجبي الواردات بدون هذا الإذن، ولذلك تنبه المشرّع إلى حالة عدم تمكن المجلس من إقرار الموازنة في المهلة المحددة لها بأن أعطى المجلس مهلة إضافية شهر واحد هو كانون الثاني، ويكون الإنفاق في هذا الشهر(طالما بدأنا في السنة الجديدة من دون موازنة) وفقاً لقاعدة الإثني عشرية، هذه القاعدة التي تعني بأن يتم قسمة (الإعتمادات النهائية التي رصدت في الموازنة السابقة) إلى 12 جزءاً وتكون قيمة الجزء هو الحد الأعلى للإنفاق شهرياً.
لكن المادة 86 من الدستور واضحة لهذه الناحية حيث حصرت الإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية بالعقد الإستثنائي فقط(أي شهر كانون الثاني)، إلاّ أن العرف المتبع في لبنان إستقر على الإستمرار بالإنفاق على أساس القاعدة الإثني عشرية لعدة أشهر بعد كانون الثاني.