سياسةمحليات لبنانية

“الميكانيزم” مشروع هدنة يحضّر لحرب على السيادة (أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي- الحوارنيوز

 

منذ إطلاق لجنة الميكانيزم كآلية تقنية لوقف الأعمال الحربية على الجبهة اللبنانية الإسرائيلية، بدا أنها تقدم كجسر مرحلي لتخفيف الاشتباك ومنع المواجهة الشاملة. غير أن تطورها السريع كشف أن وظيفتها تتجاوز ضبط النار، إلى إعادة تشكيل العلاقة بين الدولة اللبنانية ومؤسساتها السيادية، خاصة الجيش، عبر تدريج تراكمي يهدف إلى إدخالها في آلية دولية تدار بتوازن قوة مختل، يميل بوضوح لصالح الولايات المتحدة وإسرائيل.

هذا المسار ليس معزولا عن تجارب مماثلة. فالمقاربة الاميركية في إدارة النزاعات تعتمد على فرض هدن طويلة الأمد تسمح بإعادة هندسة توازن القوى من دون اتفاقات نهائية. وتجارب غزة والبوسنة والعراق تشكل نماذج سابقة، حيث تم تثبيت هدن تحت إشراف دولي، أدت إلى خلق واقع سياسي أمني جديد دون حلول شاملة.

في غزة، كان وقف إطلاق النار بعد 2008 و2012 و2021 مدخلا ليس لتسوية، بل لإدارة الساحة والتحكم بمعابرها ومواردها وربطها بالمنح والمساعدات. تحولت التهدئة إلى أداة لابتزاز سياسي واقتصادي، وجرى تطويع القرار الفلسطيني عبر شروط التنسيق، لا عبر اتفاقات معلنة.

والمعادلة ذاتها تتكرر اليوم في لبنان: هدنة طويلة الأمد تستخدم ليس لوقف القتال فقط، بل لإعادة هندسة الداخل وضبط حركة الجيش.

في البلقان، استخدمت الولايات المتحدة اتفاقيات الهدنة ومحاكمات جرائم الحرب لترتيب المشهد الداخلي، وتفكيك القوى التقليدية، ثم بناء قوات أمن خاضعة للإشراف الدولي. والنتيجة كانت دولة ذات سيادة ناقصة، وجيشا مرتبطا بالمعايير الاوروبية، لا بالقرار الوطني.

وهذه التجربة تشبه محاولة تحويل الجيش اللبناني من قوة ردع وطنية، إلى منظومة منضبطة داخل آلية دولية.

أما في العراق، فقد استخدم وقف النار بعد الغزو كأداة لإعادة بناء الجيش وفق رؤية خارجية، حتى تحول من مؤسسة وطنية موحدة إلى وحدات أمنية مجزأة، جزء منها مرتبط ببرامج اميركية.

وتظهر هنا بوضوح استراتيجية السمنة على الدولة عبر مدخل وقف النار وإعادة الهيكلة.

بناء على هذه السوابق، يصبح واضحا أن رفع مستوى التمثيل داخل لجنة الميكانيزم من العسكري إلى التقني ثم المدني، ليس مجرد مسألة تنظيمية، بل خطوة مقصودة تهدف إلى توسيع التأثير على قرار الدولة، وإشراك الجيش في منظومة تنسيق تقيد حركته وتعيد تعريف دوره. وهذه الديناميكية تسعى إلى تحويل الجيش من ضمانة مستقلة إلى عنصر منضبط في إدارة دولية للنزاع.

وتظهر حادثة يانوح كمثال عملي على هذا الاتجاه، حيث لم يكن الهدف اختبار قوة المقاومة أو الجيش فقط، بل اختبار قابلية إدماج الجيش داخل قواعد اشتباك تحددها اللجنة لا القيادة اللبنانية.

أما الاجتماع الخامس عشر في الناقورة، فقد رسخ التحول السياسي للآلية، مع حضور الموفدة الاميركية مورغان اورتيغوس، ومتابعة القيادة اللبنانية عبر قنوات دبلوماسية، ما يدل على أن الميكانيزم لم يعد تقنية عسكرية بل جزءا من منظومة قرار.

وتكشف تصريحات نتنياهو بخصوص نزع سلاح المقاومة وربط الهدنة بالمشاريع الاقتصادية، أن إسرائيل تتعامل مع اللجنة كأداة ضغط سياسي واقتصادي. وهذا نهج مطابق لتجربة غزة، حيث تحولت التهدئة إلى شرط اقتصادي مفروض.

وفي ظل غياب موازين إقليمية ضامنة، جاءت زيارة رئيس الوزراء المصري مصطفى مدبولي كمحاولة لضبط الإيقاع ومنع الانهيار، لكنها تبقى جهدا يهدف إلى منع الحرب، لا لتغيير قواعد إدارة النزاع.

إن آلية الميكانيزم، كما يجري بناؤها اليوم، ليست خطوة تقنية ولا وسيلة لوقف القتال فحسب، بل مشروع لإنتاج هدنة طويلة الأمد تتحول إلى منظومة ضبط تتسرب إلى الدولة والجيش، وتعيد تشكيل القرار الوطني.

فغزة علقت على التهدئة، والبلقان علقت على الاتفاقيات، والعراق علق على إعادة الهيكلة، وفي كل تلك الحالات، كانت الهدنة أداة لتقليص السيادة، لا لتعزيزها.

واليوم يقف لبنان على العتبة ذاتها:

إما هدنة بقرار لبناني تحفظ الجيش وتحصن الدولة، وإما هدنة مفروضة تتحول إلى وصاية ناعمة تعيد تعريف الأمن والسيادة والجيش وفق معايير الخارج.

والسؤال لم يعد: هل نوقف الحرب؟

بل: من يكتب شروط السلم؟

ومن يرسم حدود دور الجيش؟

ومن يقرر، الدولة أم الميكانيزم؟

فالتاريخ أثبت أن الهدوء حين لا يكون من صنع السيادة، يتحول إلى باب خلفي لتفكيكها. ووقف النار قد يطفئ المدافع، لكنه إن جاء مشروطا، قد يشعل حربا أخرى: حربا على السيادة هذه المرة، لا على الحدود.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى