المقعد المُعقّد المقهور داخل قصر مهجور(نسيم الخوري)
بقلم د. نسيم الخوري – الحوار نيوز
تتآلف “الشعوب اللبنانية” على تنوعها كما الأفراد عبر التركيز على الموتى والشهداء والتاريخ العتيق أكثر ممّا هو على الأحياء الذين سقطوا في تحقيق تجديد التنوّع والفرادة. تلك الشعوب والأفكار المتكلّسة والمتناقضة تبدو ثقيلة فوق عجلات الحركة نحو الغد، إن بقيت حفنة من السياسيين هائمين في حفرهم بانتظار مباركات مستوردة من خارج عابثين بأرضهم التي ارتوت بالكوارث.
قد يقبل المرء تقديس الماضي بلاطاتٍ مجدٍ محفورة في الساحات ، لو تذكّرنا فرنسا الأم مثلاً التي فقدت حنانها على لبنان، كيف انغمست في الوحدة الأوروبية بصفتها القيادية، لكنّها ما زالت تُحافظ على خصوصية ذاكرتها الأليمة تستعيدها في عبر الأفلام والمسرحيات والأنشطة الثقافية المتعددة التي تستهدف فيها الأجيال الطريّة وتُركّز بأشكالٍ مدروسة وعقلانية جدّاً على تاريخ الإحتلال النازي ومشاهد باريس وتدميرها إلى استعادة آباء فرنسا وشهدائها في الحرب العالمية.
يتّخذ هذا المظهر المستعاد في لبنان تكراراً ممجوجاً حاملاً كسوةً مذهبية وصيغاً تُفرغ قوة الحاضر وتدعو الى الإحتماء بل الإستقواء بالماضي القريب وحتى البعيد لتتعزّز مشاعر التفوق والنقيصة أو الكثرة العددية.
أختصر تلك الظواهر السلبية بسؤالٍ ل قد لا نجد له جواباً سريعاً هو:
كيف نحترم الأحياء والأجيال الآتية ومستقبل لبنان، إن لم نحترم الشهداء وكبار الموتى أبداً في خطبنا ومواقفنا وسلوكنا السياسي والإجتماعي والثقافي وخصوصاً عبر المدارس والجامعات؟
يترسّخ هذا السؤال لدى معظم المكونات الإسلامية المتنافسة على الحصص في هوية لبنان المائعة ومراكز مكوناته بفضل تبدّل المواقف وأحوال الدول في العرب والعالم.
ويقوى السؤآل مسيحيّاً ليعلن المنطق عينه بإيمانٍ صلب بالخصوصيات تُحيي جذوره القديمة عبرعقد هجرة الأبناء والأحفاد الدائمة نحو الغرب والشرق وضمور المجموعات.
يقصّون عليك مثلاً أنّ مسلّحاً ملتحيّاً قرع باب الدير عند مساء في قريةٍ نائية هاجر سكّانها وسأل كاهناً واقفاً أمام الباب بنبرة:
كم أنتم في هذا المكان يا أبتِ؟
أجاب: نحن ثلاثة آلاف.
قال: ولكنني أراكم لا تتجاوزن العشرة بعدما خرج هؤلاء من هم حولك من داخل؟
دعاه بحرارة للدخول، طالباً بركن سلاحه جانباً، وأخذه من يده نحو حافة وقال مع مغيب الشمس:
- أين نذهب بكلّ هؤلاء الموتى في هذا الوادي؟ أنترك عظامهم وننساهم مع أنهم حملوا الهويّة الخيالية لوطننا وقوة الشخصية المعنوية للآباء والأجداد التي حفرت في الرؤوس والجبال مخابىء آلام الماضي والحاضر حيال مستقبل هشّ؟.
يموت الزعماء وتضيع الأوطان وتُداهمها الحروب والخرائب، لكن يبقى لكلّ شعبٍ في هذه الدنيا، بتقديري، جسدان: واحد مادي وآخر رمزي. أمّا الجسد المميّز ففي الجماعات الحيّة المتآلفة بصيغتي المفرد والجمع والتي تُغني التنوّع بما يضمن المستقبل الدائم الحياة. قد يتثاقل التطور بالتنوّع ويذوي عند التصاقه بالتمايز في الماضي الجامد لا بحيوية الحاضر والمستقبل دون نسيان ما تخلّفه الجذور إن أصابتها العفونة لكثرة المياه أو داهمها اليباس لشحّه.
بات من ثوابت العلوم اليوم أن للشجر والنباتات والزهور في الأرض لغات تواصل خاصة لن يُدركها البشر، وتُصنّف بأنها من أنعم أنواع التواصل والحوارات الطبيعية التي تشغل الأبحاث التماساً لتوسيع مدى ثقافات الحوار والتخلّص من هذا الشلل واليباس بين الأوطان والشعوب تثميراً للتقارب ولو اقتداءً متواضعاً بالنباتات في الأرض.
الحوار ميدان واسع للتفاوض المضني والطويل والمعقّد لكنه الظريف والمثمر يقلب الأراضي الجرداء ويبعث الثقة بين الأطراف ويُسقط المساومات والأكاذيب التي لا تعني سوى إظهار المسؤول لنفسه ولغيره فوزه عبر عناده وقوّته وتأسيساً على مكامن الضعف لدى الفريق الآخر الذي يبدو خاسراً ويكابر بدوره لإظهار النجاح.
يقرع لبنان أبواب الدنيا وأجراسها فارّين من بلادهم وشعوبهم تحدوهم المساومات والإستحالات والفراغات المتراكمة والتشوّهات المرضية والنفسية التي قلّصت صورة بلدهم وحقّرت أجيالهم لتظهرهم في مواقع هزيلة منخفضة ومشوهة وحافلة بالملفات والحجج والأسانيد المتقابلة والعصية بل المجهولة والمستحيلة ليبقى لبنانهم رهينة التدخلات الكثيفة المحلية والعربية والإقليمية والدولية فيرقد في ذهن المراقبين والدبلوماسيين والمبعوثين صفة البلد العجيب الغريب الذي يستدعينا كلّ ليلة لتذكّر ألف ليلة وليلة من الضياع والبؤس والتخلّف والعجز خلف أعتاب رؤوساء الدول بانتظار الكلمة الدولية.
لا تنتظروا حصرماً مقهوراً يعقد عنباً أو رئيسا جديداً للجمهورية في جنائن قصر بعبدا المهجور. إنّنا وكأننا ننتظر لهيباً يسحبنا عنوةً خلف طاولة مستديرة جبراً كما العادة حيث لا حلّ سوى التماس قيادة الجيش نحو الكرسي لتتكرّر التاريخ:
انتخاب قبل الدماء لحبسها أم تسريع سيلانها عبر جسد لبنان فرضاً للإنتخاب.