الحوارنيوز – صحافة
تحت هذا العنوان كتب إبراهيم الأمين في صحيفة الأخبار يقول:
نجح حزب الله، خلال عقود أربعة، في إقناع الجمهور بأن هيبة المقاومة تمثّل نقطة قوة مركزية، ولا يمكن التساهل مع المسّ بها. كما أن صورة المقاومة الرافضة للكسر، هي نفسها الصورة التي ثبتت في عقول أعدائها على اختلاف أصنافهم. وهي الصورة التي تقف خلفها عقلية تعرف قيمة الفرد عندها. وقد تكون المقاومة الإسلامية في لبنان حركة التحرر العربية الأولى التي تعلّمت من كل تجاربها السابقة، كما من تجارب الآخرين، ووصلت إلى مرحلة يسيطر فيها العقل على كل قرار، مهما كانت الانفعالات حاضرة. وهي المقاومة التي لا تغامر بأي عمل إذا وجدت فيه مخاطر تفوق النتائج المرجوّة. لكنّ المقاومة في لبنان لا تهرب من الواجب. وتشير إدارتها لكل معاركها إلى أنها الطرف المستعدّ لدفع أثمان باهظة من أجل تحقيق الهدف. وهي لا تقف عند شكليات يهتمّ بها من يريد الخروج من الميدان. وعندما تقرّر الدخول في معركة، تدرس أمورها من زوايا عدة، لكنّ أفرادها يبقون في رأس القائمة، رغم أن فكرة الاستشهاد تمثّل عنصراً مركزياً في ثقافة المقاومين. وعندما يسقط الشهداء، تسارع إلى الاحتفاء بهم بمراسم لائقة. ومكانة الفرد في حسابات المقاومة جعلتها تقرّر وتنجح بعدم إبقاء أيّ من أفرادها في الأسر لدى العدو أو لدى أنظمة وجماعات إرهابية. كما جعلتها تكلّف فريقاً متفرّغاً للعمل ليلَ نهارَ من أجل تقصّي أثر المفقودين من عناصرها، والوصول إلى رفاتهم إن كانوا قد استشهدوا، علماً أن هذه المقاومة تتميّز عن غيرها من القوى، وحتى عن دول، في وضع برامج عمل طويلة الأمد لحفظ بقية الشهداء، من عائلات وآثار جهادية أو شخصية.
ولأن المقاومة على هذه الصورة، فإن سؤال ناسها عن الرد على اغتيال قادتها لا يحمل الرغبة في الانتقام أو الثأر كيفما كان. ونحن، بعد مرور سنوات طويلة على اغتيال قادة بارزين، لا نعرف إن كان الحزب قد انتقم لهم، أو عاقب من تورّط في قتلهم. لكن ما حصل في الثلاثين من تموز الماضي، في قلب الضاحية الجنوبية، لم يكن أمراً عادياً، ولا حادثاً عرضياً في سياق معركة كبيرة، حتى وإن كان القائد فؤاد شكر هو من يتولى تنسيق عمليات جبهة الإسناد اللبنانية ويجد العدو في ذلك مبرّراً لقتله، فإن ما حصل في ذلك الثلاثاء الأسود، شكلاً ومضموناً، يفرض على المقاومة، قيادة ومؤسسة وجمهوراً، التصرف بطريقة مختلفة.
والخشية من الحرب الكبرى الموجودة في عقل جمهور المقاومة وليس فقط لدى قيادتها، ليست من النوع الذي يعطّل ردات الفعل الغاضبة. وتسمع قيادة حزب الله الأصوات الآتية من البيوت والشوارع، والتي تحضّ على الرد سريعاً على الاغتيال. بل يوجد بين الناس، وبين المقاومين أيضاً، من يريد رداً يجبي في طريقه ثمناً إضافياً ممن اغتالوا القادة الآخرين. وهي رغبة ليست منفصلة عن الواقع، بل تعكس جوهر مفهوم الردع وتوازن الرعب مع العدو.
خلال الأيام العشرين الأخيرة، حصل الكثير من النقاش، ووردت رسائل كثيرة تدعو المقاومة إلى تجاوز الأمر، أو البحث عن هدف يحتاج إلى وقت طويل للوصول إليه، أو حتى البحث عن ردّ ذي طابع استعراضي لا يجرّ ردوداً تنقل المنطقة إلى مستوى جديد من المواجهة. وكل الذين اقترحوا هذه «المخارج» هم أعضاء في «نادي الاستعلاء والغطرسة الغربيَّيْن»، حيث لا قيمة عندهم سوى لبعض قتلاهم.
أما من طلب التروّي من الأصدقاء أو الحلفاء، فهم ممن ناقشوا إمكانية استثمار قرار الرد في المفاوضات الجارية لوقف المذبحة في فلسطين. وهؤلاء، يعرفون أن المقاومة لا تناقش في ما يتصل بماء الوجه هنا، بل في ثمن الدماء التي سالت. ولو أن دماء إسماعيل هنية وفؤاد شكر تجلب الهدوء إلى أبناء فلسطين، لما تردّد أحد في التفكير بطريقة أخرى. مع ذلك، فإن أصل قرار الرد يبقى متصلاً بما هو أكثر عمقاً في عقل المقاومة. إنه فعلٌ، يشكل التبرير العقلاني الفعلي لمسيرة المقاومة. وهذا، باختصار، ما يمكن أن يشرح كلمات قائد المقاومة بأن الردّ حتمي!
ها نحن ندخل اليوم الفصل الثاني من الجولة الجديدة من المفاوضات حول وقف الحرب في غزة. وفي الصخب المرتفع، نسمع كلاماً عن أن واشنطن تريد وقف الحرب، وأنها تبحث عن الصيغة الأنسب للوصول إلى قرار بوقفها، بما يرضي حماس ولا يغضب إسرائيل. أما الوقائع الآتية من غرف المفاوضات، فتشير إلى أن الهوة لا تزال كبيرة، وإلى أن قراراً أميركياً استراتيجياً لم يُتخذ بعد بإجبار إسرائيل على وقف المذبحة. ويجب الانتباه إلى طريقة تصرّف حماس مع هذه الجولة، حيث تحرص أكثر من كل الجولات السابقة على وضع الجمهور في نتائج المحادثات أولاً بأوّل، وتستهدف أولاً وأخيراً، تقديم الأمر على صورته الحقيقية. وهي، هنا، لا تخشى اتهامها بالعرقلة إن فشلت المساعي، لكنها معنية بأن تقول لأهلها أولاً، ولجمهورها ثانياً، ولحلفائها وأصدقائها ثالثاً، بأنها كانت مرنة إلى أبعد الحدود، لكنّ فكرة الاستسلام المعروضة غير واردة على الإطلاق.
وبناءً عليه، يمكن متابعة ما يجري بعيداً عن الأعين، في ساحات الكيان أو في ساحات محور المقاومة. ذلك أن تفعيل قرار الرد لم يعد يحتاج إلى كثير من الجهد. وهو تفعيل لا يمكن ربطه فقط بنوعية الأهداف، لأن المقاومة قالت إنها تسعى لردّ موجع ومؤلم بهدف معاقبة العدو وردعه. وبالتالي، فإن الآليات التنفيذية مجهولة إلا لدى من بيدهم القرار والتنفيذ. ولا حاجة هنا إلى أي نوع من التكهّنات. والأهم، هو أن الكرة الأرضية كلها باتت مقتنعة بأن الردّ آت. حتى العدو نفسه، بات يتصرف على أساس أن الرد حاصل، وهو ينطلق في ذلك من معرفته وخبرته مع المقاومة، لاتخاذ الإجراءات التي يعتقد بأنها مناسبة لمنعها من الوصول إلى أهداف استراتيجية، أو إحباط الرد قبل أو أثناء حصوله. لكنّ السيناريو الأهم على طاولة أصحاب القرار في كيان الاحتلال هو المتعلق باللحظة التالية لحصول الرد. حيث تظهر إسرائيل استعداداً معنوياً وسياسياً وعسكرياً لردّ مقابل، ولو كان شكله وحجمه مرتبطيْن بنوعية ردّ المقاومة.
وما يُنشر في كيان الاحتلال من دراسات أو آراء لخبراء، وليس لمعلّقين من صنف المنجّمين، يظهر بشكل واضح أن العدو يدرك أنّ الرد «يمثل حاجة لحزب الله من أجل استعادة صورة القوة» على ما ورد في دراسة لمعهد الأمن القومي. وهي دراسة توصي دائرة القرار بـ«أن عليها أن تبقى يقظة ومستعدّة، وكذلك النظر في احتمال حدوث مفاجآت». كما يتطرّق النقاش بين قادة الكيان إلى مدى الجاهزية للدخول في حرب واسعة، ويتوثّبون إزاء الحرب النفسية القائمة ضدهم، ويضعون كل ما تبثّه المقاومة من أفلام وصور ضمن هذه الحرب. لكنّ بعضهم يستنتج (سيث جيه فرانتزمان في جيروزاليم بوست) بأنها حرب «تعكس رغبة الحزب في تصعيد تدريجي من دون المخاطرة بحرب أكبر»، مع الإشارة إلى مخاطر الحرب الشاملة على الجبهة الداخلية في الكيان. وربما كان الكلام الأكثر وضوحاً، هو ما صرّح به مساعد المدير العام لوزارة الجبهة الداخلية دان رونين من «أن إسرائيل ليست مستعدّة لحرب شاملة على جبهات متعددة» وقوله صراحة: «إذا اشتعلت الجبهات مع حزب الله والحوثيين وإيران غداً، وإذا تم إطلاق آلاف الصواريخ هنا كل يوم، فأنا لست متأكداً من أن إسرائيل لديها حل».
هذه الخلاصة يردّدها آخرون في الكيان بطريقة مختلفة. فهم يشيرون إلى مسألة الجاهزية للقول إن الاستعداد للرد من خلال ضربة جديدة يقوم بها سلاح الجو، لا يجب فصله عما قد يليه من تطورات ميدانية. وهو أمر تطرّق إليه يائير غولان في «هآرتس» بإشارته إلى أن «كل قائد يحترم نفسه يعرف مصطلح اقتصاد الحرب، واقتصاد الذخائر، وقطع الغيار، إذ إنه يعلم كل ما قدّمته أميركا من مساعدات عسكرية، والنشاط غير المتوقف للمصانع الحربية، فإن هناك نقصاً في كل شيء. وعندما يجري الحديث مع جنود الاحتياط، يمكن التعرف إلى حقيقة أن هناك نقصاً مقلقاً في أغراض ضرورية جداً في عتادهم. هذا عدا أنّ لدينا جيشاً منهكاً وغير مؤهّل».
مع مرور ما مرّ من وقت، تبدو الصورة أكثر وضوحاً الآن. والاستعداد لمستوى جديد من المواجهة مع العدو أمر يبقى رهن سلوك الآخرين. ولم يعد هناك من وقت، لتقف أميركا على الحبل في منتصف المسير، وتقرر: هل ترفع العصا في وجه إسرائيل من أجل وقف الحرب على غزة، أم تقرر الانضمام إلى حفلة الجنون المستمرة منذ أكثر من عشرة أشهر؟ أمّا نحن، فليس عندنا سوى أن نمنح المقاومة المزيد من الثقة بعقلها وقوتها وقدرتها على أن تكون حيث يجب أن تكون!