المعاناة اللبنانية والحلول الوحيدة
لقد اعتاد اللبنانيون منذ عقود أن يعيشوا الأزمات المتلاحقة التي تطال كل المجالات الحياتية ويتكيّفوا معها بشكل لا نظير له، وكانوا يجترحون الحلول البديلة التي لا توفّرها لهم الدولة بطرق كثيراً ما تكون مضحكة مبكية، لكنها تجعلهم، أو من بقي منهم ولم يهاجر، قادرين على الاستمرار في حياة لا يحلمون بتغييرها ولا يسعون لفعل ما يوجب الإصلاح وتحسين الأمور لإحساس الغالبية العظمى من الشعب أن واقعهم قدر لا سبيل إلى تغييره بسبب العوامل الطائفية التي تسيطر على سيرورة هذا البلد. لكننا بدأنا نلحظ مؤخراً أن أزمات قديمة متجددة بدأت تطفو على السطح لتنذر بكوارث اقتصادية لن يكون بمقدور اللبنانيين تحمّل تبعاتها لما فيها من آثار تتعلق بلقمة العيش والدواء والماء والهواء وما تبقى من كرامة صمدت سنوات طوالاً على الرغم من المعاناة. فمن نفايات تعجز السلطات المختصة عن إزالتها من الشوارع بطرق سهلة متوفرة، وتقنين في الكهرباء من خلال وسائل مريبة تكلف الخزينة أموالاً باهظة ساهمت في ازدياد الدين العام الذي يكاد يصل إلى المائة مليار دولار، مع أن الحلول الجذرية متوفرة أيضاً بتكاليف أقل بكثير على الخزينة وجيب المواطن معاً، بالإضافة إلى الأزمات الأخرى التي يقبل اللبناني أن يعيشها ويتعايش معها. وبدأت في الأسابيع القليلة الماضية تبرز عناوين عريضة أبرزها ارتفاع سعر الدولار وانعكاسه على أسعار الطحين والدواء والمحروقات وغيرها، وإعلان مؤسساتها الإضراب ما لم تحقق الدولة شروطها، وأغلبها حقيقي ومشروع. ولا يمكن وأنت تعيش في لبنان من أن تنفي دور المؤامرة في ما جرى ويجري، خصوصاً مع وجود الكيان الصهيوني بجوارنا، بالإضافة إلى الأوضاع الكارثية التي تعيشها البلاد العربية والتي تؤكد أن هناك أيادي معظمها ليس خفياً، تؤسس لإرباكات تطالها بحسب المناخ المتوفر لكل منها، ولبنان لا شك أحدها.
لكن هناك من الأزمات في لبنان لا يمكن أن نحيل أسبابها إلى المؤامرة الخارجية، أو أن بمقدورنا تأمين الحلول لها أياً كان مصدرها ومسببوها، ومعظم اللبنانيين يعلمون أن لعدم اجتماع المسؤولين على كلمة واحدة دوراً محورياً في كل ما يتخبط فيه الناس ويعانون من آثاره. فهم مختلفون على المبادئ الأساسية التي تشكّل عادة هوية كل دولة، مثل الموقف الواضح من إسرائيل، وما يترتب عليه من التعاطي في مواجهتها في شتى الميادين المختلفة، والعسكرية إحداها. ولقد اختلفوا على دخول اللاجئين السوريين إلى لبنان، وعلى عودتهم إلى بلادهم. وهم مختلفون في التعامل مع النظام السوري وما فيه من تبعات إيجابية ستطال عودة اللاجئين، وإعمار سوريا قريباً، وفتح معبر البو كمال، والكثير من الأمور العالقة التي لا حل عملياً يمكن تحقيقه إذا بقيت المقاطعة قائمة بين النظامين. كذلك فهم مختلفون في انضمامهم للمحاور والدول التي تفرض عليهم قرارات السياسة والاقتصاد والولاء والعداء. فلقد رفض لبنان الرسمي الدعم الإيراني لتسليح جيشه الممنوع تسليحه أميركياً، كما رفض تزويدها له بالكهرباء لأسباب كثيرة ليس بينها أية مصلحة للبنان وأهله.
وهم مختلفون على صور الفساد ورموزه ومواجهة الفاسدين وجنودهم المنتشرين في كل المؤسسات الرسمية والخاصة، ولكل فاسد طائفة أو مذهب تجعل منه خطاً أحمر من المحرم اجتيازه. ولهذا لم تنجح التحركات المطلبية التي جرت منذ أيام قليلة، كما لم تنجح مثيلاتها من قبل، ولن تنجح أي منها طالما أن الموقف الانتمائي الواحد لا يجمع بين اللبنانيين، وإن جمعهم الغلاء والمعاناة والإهمال والعيش المهين.
نحن على أبواب الإضرابات، ولا شك أن المواقف منها ليس واحداً، لكن المسؤولين سيسعون لحل مشاكل أصحابها لأن تفاقمها سيربك البلد وأهله، فإن صبَر اللبنانيون على التقشف الذي نالهم من الأزمات الطويلة الماضية فإنهم لن يصبروا على رغيف الخبز والمحروقات والدواء وما شابه لأن في ذلك تهديداً صارخاً لوجودهم وهذا ما يعيه المسؤولون ولن يغامروا في كل ما يفتح أعين الناس على واقعهم المرير، وستبقى الأمور السائدة الأخرى على ما هي عليه، في الاختلاف في المواقف من القضايا المصيرية، العامة والتفصيلية، وما يترتب عليها من إهمال في كل شؤون الحياة، فقد أدمن الشعب عذابات الحياة في بلدهم فباتت شعوراً يومياً لا سبيل للتخلص منه. فليس مهماً أن يعيش اللبناني وأولاده بذل طالما أن زعيمه يعيش كريماً.