رأي

المراقبة والمعاقبة في بيروقراطيّات مكافحة الفساد (سعيد عيسى) 

 

د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

في العقود الأخيرة، باتت “مكافحة الفساد” من أكثر الشعارات تداولًا في برامج الحكومات، وخطابات المنظّمات الدوليّة، ومشاريع “الإصلاح الإداريّ”. ومع تعاظم الضغوط السّياسيّة والماليّة على الدول، أُنشئت وحدات تفتيش، وَوُضِعَتْ مدوّنات سلوك، وتعمّمت سياسات الشفافيّة والحوكمة المفتوحة. غير أنّ هذا التوسّع لم يرافقه دائمًا إصلاحٌ فعليٌّ في البنيّة السّياسيّة أو الاقتصاديّة، بل أفرز ما يشبه البيروقراطيّة الأخلاقيّة، حيث تتحوّل “محاربة الفساد” إلى نظام مراقبةٍ وعقاب، يعيد إنتاج السّيطرة بدلًا من تفكيكها (Shore & Wright, 1999).

تقدّم الأنثروبولوجيا الّنقديّة أدواتٍ لتحليل هذا التحوّل، لا انطلاقًا من نوايا الإصلاح، بل من نتائجه الرّمزية والمؤسّسية، ومن آليات الضّبط التي ينتجها. فما الذي تعنيه “المساءلة” حين تكون انتقائيّة؟ ومن يخضع للمحاسبة؟ ومن يعفي نفسه منها باسم محاربتها؟

بيروقراطيات الشفافية – من الخدمة إلى التفتيش

يشير Cris Shore  و  Susan Wright في دراستهما حول “الحوكمة والتّدقيق في المؤسسات الأكاديميّة” (Audit Culture, 1999) إلى أنّ التّحوّل نحو “مجتمع الشفافيّة” لم يؤدِّ بالضرورة إلى تعزيز الثّقة، بل إلى خلق ثقافةٍ رقابيّةٍ داخلية تنتج الخوف والانضباط الذاتيّ.

ويُظْهِرُ ميشال فوكو Michel Foucault  في كتابه المراقبة والمعاقبة  (1975) كيف أنّ أنظمة العقاب الحديثة لا تعمل بالقوّة الصّريحة، بل بالمراقبة الدّقيقة، التي تجعل الأفراد يُراقبون أنفسهم خوفًا من الانكشاف. في هذا السياق، تصبح “مكافحة الفساد” آليّةً سلطويّةً تهدف إلى تعديل السّلوك، لا إلى تغيير النظام.

هذا المنطق ينطبق اليوم على الكثير من مؤسّسات الدولة، حيث تتحوّل وحدات “النزاهة” إلى جهاز رقابةٍ فوقيّ، يعيد توزيع السّلطة داخل الإدارة، ويُسْتَخْدَمُ أحيانًا لتصفية الخصوم، أو لإنتاج طبقةٍ بيروقراطيّةٍ جديدةٍ تمارس الرقابة لا الإصلاح (Lipsky, 1980) .

 

العدالة الانتقائيّة.. من المحاسبة إلى التّسييس

في لبنان مثلًا، تُسْتَعْمَلُ تقارير التّفتيش المركزيّ، وهيئة مكافحة الفساد – إذا وُجدت – وهيئات الرّقابة الإداريّة، ليس دائمًا لأهداف مساءلةٍ شاملة، بل كأدوات ضغطٍ في الصّراع بين الطوائف أو التّيّارات السّياسيّة. الموظّفون الصّغار يُعاقَبون، بينما يُحمى الكبار بشبكاتهم الطائفيّة أو الحزبية. وتصبح “النّزاهة” هنا مجالًا للصّراع على الشّرعية، لا على العدالة (Badran, 2015).

أمّا في المغرب، فقد رصدت تقارير منظّمة الشّفافيّة المغربيّة  Transparency Maroc (2021) أنّ المتابعات القضائيّة في قضايا الفساد تركّز على المسؤولين المحلّيّين أو المنتخبين في القرى، بينما تُسْتَثْنى الصفقات الكبرى أو التّعيينات ذات الطّابع المركزيّ. وتُسْتَخْدَمُ لغة النّزاهة أحيانًا كوسيلةٍ لإعادة ترتيب الولاءات.

في الأردن، كما أظهرت دراسات صادرة عن مركز الفينيق للدّراسات الاقتصاديّة والمعلوماتيّة، تَبيّن أن مؤسّسات مكافحة الفساد تعمل في بيئةٍ تفتقر للاستقلال، وغالبًا ما تُسْتَعْمَلُ القضايا لغاياتٍ رمزيّة، أكثر منها بنيويّة.

التّجارب المُقارَنَة في أميركا اللّاتينيّة، مثل البرازيل والمكسيك، تشير إلى أنّ التّركيز على المسؤولين المحلّيّين فقط يعزّز الفساد البنيويّ بدلًا من الحدّ منه، ما يؤكّد أنّ العدالة الانتقائيّة ليست فشلًا محليًا فقط، بل ظاهرةً عالميّة (de Sousa, 2018).

إنتاج المواطن المشتبه به

تُنْتِجُ البيروقراطيّة الرّقابيّة نمطًا من المواطنة يقوم على الافتراض المسبق بالذّنب. فالمواطن لا يُعامَلُ كفاعلٍ شفّاف، بل كمُشتبهٍ به يجب التحقّق من صدقه. وهكذا، تتحوّل العلاقة بين الدّولة والفرد من علاقة خدمةٍ إلى علاقة تفتيش مسبق.

في مصر، مثلًا، يُطْلَبُ من المواطنين “شهادات ذمةٍ ماليّةٍ” أو “بيانات مصدر الدّخل” للحصول على أبسط الخدمات، في حين تُمرّر الصّفقات الكبرى في غياب المحاسبة. هنا، لا تكون الشّفافيّة أداة تمكين، بل أداة نزع ثقة (World Bank, 2019).

تُبيّن الباحثة سارة تاونسندSarah M. M. Townsend (2021)  أنّ خطاب مكافحة الفساد كثيرًا ما يُنْتِجُ ما تسمّيه مواطَنةً مشروطة، أي أنّ الفرد يُعْتَبَرُ نزيهًا فقط حين يثبت امتثاله لمقاييسٍ وضعتها السّلطة، لا حين يتمتع بحقوقه.

فسادٌ باسم النزاهة – عندما تُراقَبُ الأقلّيّات ويُسْتَثْنى الأقوياء

تكمن المفارقة في أنّ كثيرًا من حملات مكافحة الفساد لا تطال البُنى التي تنتج الفساد فعليّا، بل تُركّز على أشكالٍ بسيطةٍ أو رمزيّةٍ منه. فالرّشوة الصّغيرة يُعاقَب عليها، لكنّ الشّبكات الزّبائنيّة الكبرى، والاحتكارات السياسيّة-الاقتصاديّة، تمرّ بلا مساءلة (Blundo et al., 2006).

كما تُظْهِرُ دراسات أكيل غوبتا Akhil Gupta  في الهند أنّ “الشّفافيّة” حين تطبّق بشكلٍ تكنوقراطيٍّ دون فهم للبنية الاجتماعيّة، تعيد إنتاج التّميّيز الطبقيّ والإثنيّ، لأن من يملك اللّغة، والتّعليم، والوساطة، هو فقط من يستطيع التنقّل ضمن نظام المحاسبة.

ما وراء القانون – مساءلة من؟ وباسم من؟

تذكّرنا الأنثروبولوجيا بأنّ القانون لا يطبّق في فراغ، بل داخل بنيةٍ من العلاقات والمصالح والصراعات. ولهذا، فإنّ مكافحة الفساد لا تكون فعّالةً إلا حين تكون منبثقةً من مساءلةٍ سياسيّةٍ أفقيّة، لا من مراكز مراقبةٍ عاموديّةٍ تعيد إنتاج الهيمنة (Merry, 2011).

الشّفافيّة، في هذه الحالة، ليست فقط نشرًا للبيانات، بل خلق فضاءٍ عامٍّ نقديٍّ يتيح للمجتمع مساءلة المؤسسات، لا العكس. والمساءلة ليست فقط عقابا، بل تصحيحًا لمساٍ السّلطة من خلال إعادة بناء الثّقة، لا فقط ترسيخ الشكوك (Florini, 2007).

من الرّقابة إلى المشاركة

تؤكّد الأنثروبولوجيا النّقديّة أنّ المساءلة الفعّالة تتجاوز العقاب الرقابيّ، لتشمل إشراك المواطنين والمجتمع المدنيّ في عمليّات الرّقابة والتّقييم (Tendler, 1997). إذا تحوّلت الشفافيّة إلى مجرّد أداة ضبطٍ تكنوقراطيّة، فإنّها تعزّز البيروقراطيّات الأخلاقيّة وتتيح للفساد إعادة إنتاج نفسه ضمن نفس المنطق الإداريّ.

التّجارب المُقارَنَة تُظْهِرُ أنّ دمج مشاركة المجتمع المدنيّ في برامج النّزاهة يعزّز الفاعليّة ويحدّ من المحسوبيّة. على سبيل المثال، في البرازيل والهند، ساهمت مبادراتٌ مثل مراقبة الميزانيّات المحلّيّة من قبل المواطنين أو جمعيات الرّقابة الشّعبيّة (Olken, 2007) في كشف مخالفاتٍ صغيرةٍ وكبيرة، وأدّت إلى ضغطٍ لإصلاح السّياسات على مستوًى أعلى، بعيدًا عن الرّقابة التقليديّة المركزيّة.

كما أنّ تغيير الثّقافة المؤسّسية لا يقلّ أهمّيّةً عن القوانين نفسها. إذ يجب أن تُبنى الشفافيّة على ثقافة مشاركةٍ ووعيٍّ جماعيّ، بحيث لا يقتصر دور الأفراد على التنفيذ فقط، بل يمتدّ إلى الرقابة على من يراقبهم، ما يخلق دورةً من الثّقة والمسؤوليّة المتبادلة .(Florini, 2007)

في هذا السّياق، يمكن القول إنّ الإصلاح السّياسيّ العميق الذي يعيد تعريف السّلطة ويعزّز مشاركة المواطنين هو الشّرط الأساسيّ لنجاح مكافحة الفساد. دون ذلك، تظلّ “حملات النزاهة” مجرّد شعارات، والبيروقراطيّة الأخلاقيّة تستمرّ في إنتاج ما تصفه تاوسند Townsend (2021) بـ”مواطَنةٍ مشروطة”، حيث يُعامَلُ الأفراد بحسب التزامهم بمعايير السّلطة لا بحسب حقوقهم القانونيّة أو المدنيّة.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى