رأي

المرأة العربية بين محاربة الاستعمار والصهيونية ومواجهة الجهل والعنف والتقاليد(ماري ناصيف الدبس)

د. ماري ناصيف الدبس(*)
… تساءلت من أين أبدأ في نقاش تلك الاشكالية المطروحة أمامي، أو، بالأحرى، التي طرحتها على نفسي. أأدخل في الموضوع من باب اللغة والتعريف عن نفسي بصفة “نائب” أو “نائبة” أو بصفة “امرأة” جمعها – “نساء” – لا ينتمي إلى المؤنث السالم؟ أم أدخل من باب التناقض المدوّي بين الدور الذي تلعبه اليوم نساء غزة، وفلسطين عموما، ولبنان، وقبلهن الكثيرات على امتداد العالم العربي، في مواجهة عدوانية الاستعمار وعنف الاستيطان ومجازر الابادة، وبين الجهل والتقاليد وما نتج عنها من قوانين ترى في المرأة “عورة” وإنسانا ناقص الأهلية، فتلجأ إلى تهميش دورها الاجتماعي والوطني وتمنع عنها حق المشاركة الفعلية في صنع القرار؟
وأنا أفكّر في الأمر، مرّت في ذاكرتي كل الأسماء التي ساهم تاريخها المجيد في تكوين إنسانيتي وفي تحويلي من مجرّد امرأة صابرة على الظلم اللاحق بها إلى مناضلة تسعى إلى تغيير الصورة النمطية التي حشرت داخلها. أسماء تعد بالمئات، لا بل بالآلاف، لذا لن أتمكن من ذكرها في هذه العجالة. أسماء رسمت وترسم خارطة الوطن العربي من المحيط إلى الخليج وتنير لشعوبنا دروب النضال والتضحية على كافة المستويات، بدءا من هدى شعراوي، التي شاركت في ثورة 1919 في مصر، وكل المناضلات النسائيات المصريات، إلى شادية أبو غزالة ومعها كل المناضلات والمقاومات الفلسطينيات البطلات اللواتي تركن بصمة من نور في كل زاوية وعلى كل حبة تراب من قلسطين، إلى الشهيدة وردة بطرس ابراهيم ورفيقاتها في الحركة العمالية والنسائية اللبنانية، ومن ثم في المقاومة الوطنية ضد الاحتلال الصهيوني للبنان، إلى المناضلات في سوريا والعراق والأردن واليمن، بل وكل الخليج. ولا ننسى بالطبع كنداكات السودان، ولا النساء الطليعيات في كل بلدان المغرب العربي اللواتي ساهمن في تحرير أوطانهن من نير الاستعمار الفرنسي، وعلى رأسهن جميلة بوحيرد وجميلة بوباشا ومليكة قايد…
والتناقض بين دور المرأة العربية وحقوقها كإنسان كامل الانسانية، الذي أشرنا له في هذه المقدمة، هو وليد التقاليد والأعراف وما راكمته على مر السنين من جهل، وعنف ذكوري، وتمييز على كافة المستويات، بدءا بالعائلة والمجتمع ووصولا إلى القوانين والسياسة. وتجدر الاشارة إلى أن مواقف الأنظمة والحكومات العربية، كلها ودون استثناء يذكر، متطابقة من حيث رفض الاعتراف بحقها في المساواة مع شريكها في العائلة والعمل والنضال بمختلف مستوياته وتفرعاته. والأمثلة على ذلك كثيرة.
أهم تلك الأمثلة ما يتعلّق بالتحفظات الموحّدة التي وضعت على المادتين 9 و16 من “اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة”، اللتين تنصان على المساواة بين المواطنين والمواطنات في اكتساب الجنسية أو إعطائها (1)، أو في كافة الأمور المتعلقة بالأحوال الشخصية ، وبالأخص الحقوق والمسؤوليات بوصف المرأة والرجل أبوين أثناء الزواج وعند فسخه (2). فالمساواة في الحقوق الشخصية مخيفة، على ما يبدو، للانظمة العربية والقيّمين عليها، كونها تؤدي إلى تحوّل اقتصادي واجتماعي جذري سينعكس بدون شك على البنى التحتية، أولا، بما يعني اتباع المساواة في الإرث وتقاسم الثروة الاجتماعية، الأمر الذي يقود إلى التحرر الاقتصادي والاجتماعي وإلى إلغاء الارتهان المادي والعبودية اللتين تمارسان ضد النساء. أما الانعكاس الثاني للمساواة، على البنى الفوقية، فهو سيؤدي إلى تغيير في أشكال وأساليب تداول السلطة، وبالتالي في أنظمة الحكم نفسها. وفي كلتا الحالتين، ستكون النتيجة كسر قضبان السجن التي وضعت فيه لتساهم في بناء المجتمعات وتطويرها والمشاركة في صنع القرار على كافة المستويات، خاصة وأن مساهمتها في مجالات النضال التحرري، عمليا وفكريا وأيديولوجيا، لم تعد بحاجة إلى دليل أو برهان.
رب قائل أن الوقت الحالي لا يصلح لمثل هذا النقاش، في ظل توسّع ما يسمى مجازا “الحرب العالمية الثالثة” التي يشنها حلف الناتو باسم القوى الامبريالية وبقيادة الولايات المتحدة الأميركية من أوكرانيا إلى تايوان، مرورا ببلداننا العربية، وبفلسطين على وجه الخصوص. فالأولوية، اليوم، تكمن في مواجهة جريمة الابادة الجماعية الجديدة التي يرتكبها الصهاينة منذ ستة أشهر، والتي أودت بحياة عشرات الآلاف من الفلسطينيات في غزة لوحدها (3)، عدا عن مئات الآلاف من اللواتي طالهن التهجير والجوع والعطش والمرض، وعن الجرائم التي تطال النساء والفتيات في الضفة الغربية المحتلة وفي المعتقلات الصهيونية. أما في السودان، فالنساء والفتيات يشكلن، منذ حوالي السنة، وقودا للصراع الجديد المستعر على السلطة، حيث الافقار والتهجير والسبي والخطف والاغتصاب والقتل طال أكثر من مليوني امرأة… وأما في اليمن، فالنساء والفتيات هن أكثر من عانى ويعاني من الحرب والحصار المستمرين… كل ذلك صحيح، لأن الانعكاسات السلبية الأساسية للحروب والنزاعات المسلحة غالبا ما تطال النساء في بلداننا. لذا لا بد من لفت النظر، أيضا، إلى تلك الانعكاسات، ومنها بشكل خاص جرائم تزويج الطفلات القاصرات التي ازدادت في كل العالم العربي، في السنوات العشر الأخيرة، نتيجة للنزوح والتهجير القسري، إن في اليمن أم في سوريا والسودان ولبنان والعراق… كما لا بد من تسليط الضوء على المعاناة الناجمة عن تزايد العنف الأسري، والعنف الأسري القاتل… ولا ننسى جرائم الختان التي تتعرض لها العديد من الفتيات ابتداء من سن الثالثة عشرة، وحتى قبل ذلك، والتي، وإن انخفضت في بعض البلدان العربية، فهي لا تزال واسعة الانتشار(4)، على الرغم من اعتبار الختان جريمة عقوبتها السجن في بعض هذه البلدان.
لكل ذلك نقول أن الصراع بالنسبة لنا نحن النساء له ثلاثة أوجه تتكامل في ما بينها لتشكّل الحل. الوجه الأول، ويكمن في مستوى مساهمتنا في النضال الوطني التحرري من كل أشكال الاستعمار، الجديد منها والقديم، ومن الصهيونية ضمنا كونها تمثل الوجه الأكثر إجراما لهذا الاستعمار. أما الوجه الثاني، فيكمن في مستوى مساهمتنا في الصراع الطبقي الهادف إلى الخلاص من الأنظمة التابعة التي فرضتها الرأسمالية العالمية علينا، ومن أجل فرض التغيير الديمقراطي المستند إلى العدالة الاجتماعية داخل مجتمعاتنا. وأما الوجه الثالث، فيكمن في كيفية الانتهاء من العادات والتقاليد التي أسست لتهميش موقع المرأة ودورها عبر نضال أيديولوجي يعمل على تغيير المفاهيم الذكورية واستبدالها بمفاهيم إنسانية صحيحة مفادها المساواة بين الناس في الحقوق الأساسية التي أكدتها ثورة أكتوبر البروليتارية والتي صاغها ماركس كالتالي: “وفي الطور الأعلى من المجتمع الشيوعي، بعد إن يزول خضوع الأفراد المذل لتقسيم العمل ويزول معه التضاد بين العمل الفكري والعمل الجسدي ؛ وحين يصبح العمل، لا وسيلة للعيش وحسب، بل الحاجة الأولى للحياة أيضاً ؛ وحين تتنامى القوى المنتجة مع تطور الأفراد في جميع النواحي، وحين تتدفق جميع ينابيع الثروة العامة بفيض وغزارة. حينذاك فقط، يصبح بالإمكان تجاوز الأفق الضيق للحق البرجوازي تجاوزاً تاماً، ويصبح بإمكان المجتمع إن يسجل على رايته: من كل حسب كفاءاته، ولكل حسب حاجاته” (5).
(*) ماري ناصيف – الدبس
نائبة الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني
المنسقة السابقة للقاء اليساري العربي
(مجلة “الهدف”، عدد نيسان 2024)
 1.  المادة 9
– تمنح الدول الأطراف المرأة حقوقا مساوية لحقوق الرجل في اكتساب جنسيتها أو تغييرها أو الاحتفاظ بها. وتضمن بوجه خاص ألا يترتب على الزواج من أجنبي، أو على تغيير الزوج لجنسيته أثناء الزواج، أن تتغير تلقائيا جنسية الزوجة، أو أن تصبح بلا جنسية، أو أن تفرض عليها جنسية الزوج.
– تمنح الدول الأطراف المرأة حقا مساويا لحق الرجل فيما يتعلق بجنسية أطفالهما.
 2.  المادة 16
تتخذ الدول الأطراف جميع التدابير المناسبة للقضاء على التمييز ضد المرأة في كافة الأمور المتعلقة بالزواج والعلاقات العائلية…
 3. تشير الأرقام الموثقة خلال 6 أشهر من تاريخ بدء العدوان على غزة إلى استشهاد 9 آلاف امرأة؛ ومن الممكن أن تكون هذه الأرقام أقل من الواقع.  هذا، وتفيد هيئة الأمم المتحدة للمرأة أن ما معدله 63 امرأة يقتلن كل يوم في غزة، من بينهن 37 أما، مما يترك أسرهن مدمرة وأطفالهن بلا حماية.
4. في مصر، مثلا، طالت 36,8 بالمئة من الفتيات ما بين 15 و17 سنة في العام 2021، بحسب إحصاءات المجلس القومي للمرأة. علما أن القانون يجرم مرتكبيها.

5. كتاب “نقد برنامج غوته” لماركس (1875).

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى