رأي

المثقف بين ضمير الأمة وتحولات الصراع (أسامة مشيمش)

 

بقلم د. أسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز

 

لطالما اعتُبر المثقف حاملًا لرسالة تتجاوز حدود المعرفة الأكاديمية، فهو ضمير الأمة، وميزانها الأخلاقي، والقدرة التي تملك أدوات التحليل والتفكيك والتأويل. لكنّ هذه المكانة، رغم رمزيتها العالية، لم تكن دائمًا في منأى عن الخيبات، خصوصًا عندما يتحوّل المثقف من صوت للحقيقة إلى مروّج لخيارات لا تنسجم مع التاريخ أو الهوية أو الكرامة الوطنية.

 

في التجربة اللبنانية، وبالذات ضمن السياق الإقليمي المتشابك، برزت أزمة المثقف بشكل حاد. فقد شهدنا في السنوات الماضية مواقف لافتة لعدد من المثقفين اللبنانيين، اتخذت منحى يدعو إلى نزع سلاح المقا.ومة، وإنهاء حالة الصراع مع إسرائيل، بل والدعوة، بشكل مباشر أو غير مباشر، إلى التطبيع مع كيان لم تتوقف جرائمه على مدى أكثر من سبعة عقود.

 

هؤلاء المثقفون لم يقدموا مواقفهم بوصفها خروجا عن الثوابت، بل سعوا إلى تبريرها بمنهجية علمية، مستخدمين أدوات تحليل سياسي واجتماعي واقتصادي، محاولين إقناع جمهورهم بأن ما يقولونه هو خطاب واقعي، عقلاني، ومتقدّم. البعض استند إلى التجربة، وآخرون إلى منطق التوازنات الدولية، وغيرهم تحدّث عن حاجة اللبنانيين للسلام والنمو والانفكاك عن صراعات كبرى لا طاقة لهم بها.

 

لكن هذه الطروحات، على وجاهة بعضها من حيث الشكل، تُصنّف من قبل شريحة واسعة من اللبنانيين والعرب على أنها شكل من أشكال التراجع عن المبادئ التاريخية، وتواطؤ ناعم مع مشروع يستند في جوهره إلى منطق القوة والعدوان والتمييز العرقي.  

 

إن أخطر ما في هذا التحول عند بعض المثقفين ليس الموقف نفسه، بل قدرتهم على تبريره، وتغليفه بلغة تبدو علمية، هادئة، ومدروسة، تجعل المستمع يشعر وكأن الخطأ في مكان آخر، وأن الحق، كما يُقال، يُولد من رحم المراجعات. وهذه القدرة على التأثير، وإن كانت في ظاهرها نتاج خبرة ومعرفة، فإنها تتحول أحيانًا إلى أداة لتضليل الوعي العام وإرباك البوصلة الأخلاقية والسياسية.

 

المسألة هنا ليست نقاشًا في حرية الرأي، فالمثقف الحقيقي يجب أن يُسمَع صوته حتى لو خالف التيار العام. ولكن الإشكالية تبرز حين تتحوّل هذه الحرية إلى منصة لتبرير الانقلاب على القضايا الكبرى، أو لتسويق سياسات تتناقض مع كرامة الشعوب وحقوقها. وهنا، يصبح النقد مشروعًا، بل واجبًا، خاصة إذا كان في إطار الدفاع عن حق الشعوب في المقا.ومة، والتحرر، والعدالة.

 

المثقف لا يُنتظر منه أن يكون بوقًا لأحد، لكنه أيضًا لا يمكن أن يكون خنجرًا في خاصرة مجتمعه. هو مَن يُفترض به أن يكون أول من يواجه مشاريع الهيمنة، وأن يفضح أدواتها الناعمة والخشنة، لا أن يتحوّل إلى مهندس لعقول مشوشة، يبيعها الوهم تحت عنوان الواقعية السياسية.

 

وفي ضوء ما سبق، لسنا في وارد شيطنة أحد، ولا في مقام إطلاق الأحكام المطلقة. غير أن التاريخ لا ينسى، وهو كفيل بأن يُفرز من كان مع الأمة ومن كان عليها، من حافظ على قلمه في خدمة الحقيقة، ومن جفّ حبره في مرافعة خاسرة عن مشاريع مشبوهة.

 

إن الشعوب تمرّ بأزمات، والمواقف تتبدّل، والتحالفات تتغيّر. لكن هناك ثوابت يجب ألا تُمسّ، وأولها الحق في مقا.ومة الاحتلال، ورفض التطبيع مع كيان لم يعترف إلى الآن بأي ظلم ارتكبه، ولا بأي حق للفلسطيني في أرضه، ولا للبناني في سيادته، ولا للعربي في كرامته.

 

ختامًا، قد يُقال إن المثقف وليد لحظته، وإن عليه أن يعيد النظر في خياراته كلما تغيرت الوقائع. وهذا صحيح. لكن عليه أيضًا أن يختار موقعه بعناية: إما ضميرًا للأمة، أو شاهد زور على نكبتها.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى