الكيان الصهيوني وأوهام الردع والقوة(فرح موسى)
أ.د. فرح موسى* – الحوار نيوز
منذ احتلال فلسطين ونشأة الكيان الصهيوني، لم تفارقه عقدة الردع الاستراتيجي، وأوهام الدولة العظمى، ويهودية الدولة، وغير ذلك مما شكل له هماً وهاجساً وجودياً، رغم أنه كان وما يزال يحظى بالدعم العالمي، ولم تكن توجد تهديدات حقيقية مقابلة له، على اعتبار أن الواقع العربي والإسلامي كان مترهلاً لدرجة الخشية على نفسه من أن تطاله يد الاستعمار الغربي بالنقمة، ما أدى به هو أيضاً إلى أن يكون أسيراً للسياسات الغربية والشرقية، وهي سياسات كما نعلم جميعاً، أسست هذا الكيان ودعمته ليكون دولة الحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية على حد تعبير “بن غريون” في
كتابة الدولة اليهودية …
لذا، فإن ما يعيشه هذا الكيان اليوم ويتفاعل معه من أحداث، ليس شبيهاً بشيء مما كان قائماً ومألوفاً لديه منذ تأسيسه، وهو لا يزال موهوماً بالردع، ومأخوذاً بنزعة القوة، محاولاً إقناع نفسه وكل حلفائه بأنه لا يزال على مكانته من القوة والسطوة، ويملك إمكانات الحل والربط في المسارات السياسية والاستراتيجية. ولا شك في أن مسارات التطبيع العربي زادت من أوهام العدو وصلفه بأنه يستطيع فرض المعادلات التي تضمن له تفوقه في الشرق الأوسط، إلا أن هذا كله، بعد طوفان الأقصى، أصبح من الماضي رغم مكابرة العدو.
وقد بان للعالم أجمع أن هذا الكيان إذا لم تتوفر له عوامل قوة خارجية، فلن يكون قادراً على حماية نفسه، هذا إذا لم يكن قد خرج من معادلات القوة، وذلك لما كشفه طوفان الأقصى من ترهل في بنية العدو النفسية والاجتماعية قبل العسكرية. فطوفان الأقصى بكل ما يعنيه من امتداد في الأمة، كشف عن معادلة ردع ترتكز إلى مضامين ورؤى في الدين والسياسة، تختلف جوهرياً عما كان سائداً في زمن الترهل العربي، الذي قاتل في كل مكان إلا في فلسطين، فقد راعه أن يعلن النفير لأجلها.
ولا شك في أن معادلة ردع المقاومة فاجأت العدو وأعوانه في المنطقة والعالم، بما أحدثته من تغيير في موازين القوى، فأخرجت الصراع عن كونه تعبيراً مادياً قوامه المال والسلاح وجعلت منه صراعاً في الفكر والرؤية والإيديولوجية، تتشارك فيه كل مقومات الأمة، وهذا ما كان ليحصل لولا أن مقاومة الأمة قد ارتكزت إلى معادلات جديدة في الردع الاستراتيجي، وبدلت في أفكارها وأساليبها، لتكون أكثر انسجاماً مع وعيها التاريخي بضرورة أن تكون المقاومة مختلفة في وسائل ردعها على نحو ما تقوم به جبهات الإسناد، حيث اعتمدت وسائل مختلفة في التعبير عن إرادة القوة؛ وهذا ما جعل العدو في حيرة من أمره وردعه.
وما جرى في صبيحة يوم التاسع عشر من يوليو إثر سقوط المسيّرة اليمنية في تل أبيب، أظهر للعدو كم تبدلت وسائل الردع، وكم اختلفت عوامل القوة بين أن تكون جيشاً يقتل أو أمة تقاتل. وما أشبه اليوم بما كان عليه اليهود في تاريخهم، وخصوصاً في عصر رسول الله ص، حيث كانوا يعتقدون أن قوتهم تختلف عن قوة قريش، وأنه يمكنهم تغيير المعادلات لتكون في صالحهم، فتأمّروا واعتدوا حتى أخرجوا من حصونم بعد أن كانوا يقولون لرسول الله: ” يا محمد لا يغرنك من نفسك القتال. فأنت قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال. إنك لو قاتلتنا لعرفت إنا نحن الناس، وإنك لم تلق مثلنا …”.
فالتاريخ يعيد نفسه بالنسبة لليهود، لأن الأحداث لم تغيرهم، ولم تبدّل من منازعهم ولا من مزاعمهم، فهم يرون أن القوة تكمن بالحصون والقلاع والسلاح والإنذار المبكر، فجاءت معادلة المقاومة لتجعل العدو في مأزق وجودي، وما من عاقل إلا وبان له أن هذا العدو لم يعد لديه من وسائل الردع ما يكفيه لحماية وجوده، وهذا ما نرى أنه يسهل على المقاومين إخراجه من صياصيه للنيل منه، بحيث يكون مصيره كأسلافه في ما جرى لهم من قتل وأسر ورعب وتخريب لبيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين، كما قال تعالى: “وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب، يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين….”، وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.. والسلام.
*رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية