الكل يريد ان يكون غالبا ..والشعب وحده المغلوب(محمد عبد الله فضل الله)
محمد عبدالله فضل الله *-خاص الحوار نيوز
حرب سجالات وبيانات وكلام عن تهميش رئاسات، والقاسم المشترك إلى الآن المقامرة المحلّلة للجميع بمصير البلد والناس، وكأن العداء في السياسة المحلية مستحكم بين فصلين متناقضين: إما النرجسية الطفولية المتفلتة من أي عقال، وإما الخضوع المكره لتهدئة تدير لحظات وحسابات آنية بانتظار جولات أخرى من الصراع والتنازع، تخدمها ثغرات دستورية ومناكفات إقليمية وجدت لها مكانا ومرتعا في اتفاق الطائف الذي يكابد اليوم للبقاء حيًا على الرغم من كل التبدلات والتحولات والأحداث التي حصلت وتحصل، إذ تجذرت في طياته دويلات المصالح إلى درجة لم يعد يشبع نهمها.
هذا ما يطبع سياستنا في هذا البلد الجريح منذ أن فرضت على أبنائه حروب وأدخلوا في حالات انفصام وهمية ونفسية اختلقت ذرائع واعتمدت المخادعة والمكر، وبنت جدارنا عالية بين أتباع طوائفه مستفيدة من تحالف سياسي مصرفي عميق.
في الأدبيات السياسية اللبنانية تجد الصيغة المعروفة ” لا غالب ولا مغلوب ” التي يعرفها الصغير والكبير في بلد المشاحنات وصراعات النفوذ ومحاولات الهيمنة، والتي لم يعد لها مكان وتأثير في خضم ما نشهد من حفلات جنون سياسية لم تكترث إلى الآن بمسلسل انهيار البلد، على الرغم من معرفتها بخطورة الأوضاع والمجازفات حيث الإستثمار في السياسة أولوية على حساب الناس ولو هلِكوا.
الجميع من أقصى أحزاب اليمين إلى أقصى اليسار، مرورا بما يسمى بالوسطية غير الواقعية، لا يتورعون عن استحضار تجربة الحرب الأهلية لعلهم يعيدون إنتاج أمجادهم ولعل الحروب المفتعلة إن وقعت ستكون وسيلة لإنضاج حلول سياسية واستقراب موعدها. وهنا تكمن الخطورة إذ التقسيم صارخ وينتظر صاعق التفجير بين من ينضوي تحت النفوذ السوري – الإيراني صاحب القوة والحظوة اليوم ،وبين من يعتبر نفسه خارجًا عن ذلك ومواجهًا له على الأقل سياسيًا إلى حين.
إن حسن إدارة المرحلة ومواجهة الأخطار غائب عن قاموس من يؤكدون عمليا عدم نضجهم السياسي، وأن البلد بهم لم يبلغ بعد مرحلة “الرشد السياسي”، هذه المفردة التي هي الأخرى كانت في أدبياتنا السياسية في مرحلة ما من تاريخنا وكأنها تطل برأسها اليوم من جديد وبقوة .
أزمة اليوم هل من أحد يفكر في عواقبها ؟ فإلى حين تفاقمها ليس بالإمكان التحكم بنتائجها ومساراتها ،وهذا ما يخيف إذا كانت اللعبة السياسية بين أناس لا يفقهون معنى السياسة، بل تحركهم توجهات مصلحية تجد في السياسة متنفسًا لها، وهم تاليا لا يبادرون إلى الحلول بقدر ما تحوي الحلول تلبية لطموحات مرحلية أو مستقبلية حتى الغرق في مستنقع الأزمات تجد من لهم فرصة في اتساع رقعته حتى يثبتوا زعامات هنا وهناك في صور منقذين. فالذي يترك الناس للجوع والمرض ويتفرج على عذاباتهم لا مشكلة لديه في رمي الناس في آتون التقاتل.
فماذا تنفع صرخات الإستغاثة السياسية ومحاولات حفظ موازين القوى ما لم تحدث تغييرا أساسيا وجديا في الذهنية العامة ؟
إن ذهنية كثيرين مبنية على أساس كسر الآخر ولو من خلال المناداة بحفظ حقوقه كدعاية وشعار. فاليوم الخوف كبير من تكريس مبدأ الغالب في كل شيء وكسر مبدأ “لا غالب ولا مغلوب” إلى حين الوصول إلى ما تفرضه موازين التحولات والسياسات الإقليمية والعالمية ،التي عادة ما تنهي الأزمات على طريقتها ووفق أولوياتها ومصالحها فيما الساسة ينتظرون هذه التحولات الكبرى وترجمة الإتفاقات بين إيران وأميركا في المنطقة، ولكن طبيعة هذه الصفقة لم تتضح بعد ،ناهيك عن ملامح السياسة الخارجية لإيران في المنطقة وحدودها ومقاربتها الإستراتيجية لملفات اليمن والعراق ولبنان مع صعود الرئيس إبراهيم رئيسي وقدرته على التوفيق بين نجاح المفاوضات مع واشنطن وما يمليه الخطاب المحافظ عليه من مفردات وتعبوية رافضة للمساومات. فالثورة الإسلامية اليوم بحاجة إلى تثبيت أقدامها وضخ الدم في عروقها من جديد لمواجهة التحديات الداخلية والخارجية على الصعد كافة.
يشار أيضا إلى أن التأثير الأوروبي بوجه عام أصبح بلا جدوى ومحدود، وإن أطلق منسق السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل تحذيراته وتهديداته ونصائحه للمسؤولين مؤخرا، فالجميع على علم بأن مفتاح الحل بجعبة واشنطن والدول الإقليمية الفاعلة، ولكن على الأطراف المحلية التنبه من ترف الوقت وتضييعه والمبادرة الفورية إلى فكفكة العقد الداخلية لوحدهم وبسرعة والتلاقي في أول الطريق أو منتصفه ،وألا ينتظروا الخارج الذي لا يهمه سوى تثبيت مصالحه وألا يتغنوا بوصايات من هنا وهناك بينما الناس تتلوى من الجوع والفقر.
حتى المخارج للأزمات في لبنان تمعن في تكريس التوتر وهي لعبة وفن تضفي نوعا من الحماسة وإلهاب المشاعر لخدمة الأهداف الظرفية. فخريطة التحالفات السياسية المعقدة تحرج هذا وتحاصر ذاك وتوهم بأنها تحمي الحقوق لهذه الطائفة ولتلك ،ويبقى البعض واعظا ومنشئا للشعر السياسي بضرورة التغيير والإصلاح وإجراء انتخابات ،فيما تغيب الأجندات الجدية والرؤية السياسية الواضحة والبرامج لدى الذين ينادون بالتغيير، تاركين الساحة للمتنفذين والمستقوين بالخارج وبعصبيات الداخل، إذ لم يبق سوى عام واحد على هذه الإنتخابات إن حصلت. وماذا عن القدرة على التغيير وإيجاد وطن بديل عن الموجود وممنوع عنّا في ظل الإشتباك السياسي القائم واستعار المشاعر الطائفية والمذهبية ! وبأية جرأة سيصعد من هم أحزاب اليوم ويقنعون الجمهور المعذب والمسحوق بمصداقيتهم التي لا غبار عليها؟! وماذا لو أعاد الناس أنفسهم وبطوباوية تافهة إنتاج الطبقة السياسية الطائفية نفسها ؟!
كل هذا لا يهم بقدر ما يهم اليوم السرعة في ابتداع صيغة تمنع الإنفجار الكبير والتي أضحت من المعجزات في بلد المعاجز في كل شيء ، صيغة تحاول التخفيف قدر الإمكان من محاولات كسر هذه الجهة أو تلك أو على الأقل تجميل ما يمكن كسره في وقت ما. لأن توتير البلد وتسخينه في هذه اللحظات الحساسة سيدفع نحو فوضى كبيرة أمنية واجتماعية لن يحتمل الجميع عواقبها ، والمضحك المبكي أن زعماء البلاد مسؤولون عن هذا التسخين وبالوقت ذاته متوجسون من إنفلات الأمور وعدم قدرتهم على السيطرة على تطوراتها وتداعياتها داخليا وخارجيا. فالجميع اليوم في لحظة توجس وخوف صنعوها بفضل عنترياتهم وأضحوا مستنجدين لحلول يرفضونها إن لم تكن لمصلحتهم ، والأنكى من هذا وذاك تشدق الجميع بحرصهم على الوطن ومؤسساته وخوفهم عليه حتى أصبح الشعب المسكين وحده هو الفاسد المسؤول عن كل هذه الأزمات ؟!.
إن التعقل مطلوب إلى أقصى الحدود وهو أكثر من حاجة ملحة حتى لا ينهار الهيكل على رؤوس الجميع، فلم يعد الناس يكترثون لشكل التسويات ومسمياتها رباعية أو ثلاثية ولا للشعارات ” لا غالب ولا مغلوب” بل يريدون حلاً ولو مؤقتًا ولو كان في تعويم حكومة تصريف الأعمال وتفعيلها للجم الانهيار والارتطام والتي أمعن في تثبيطها وتقييد حركتها أصحاب القرار السياسي أنفسهم.
فهل من تسوية بين ديوك السياسة يلتقط فيها الناس أنفاسهم وتبقهم على رمق من الحياة في نيرون لبنانهم الذي هجرته القصائد وغادرته البهجة ؟.
* باحث أكاديمي