رأي

الكتابة الوعرة فوق بيادر العرب(نسيم الخوري)

 

بقلم الدكتور نسيم الخوري – الحوار نيوز

 

أجوس الكلمات، قبل أن أستعملها. أشاورها وحيداً ومخنوقاً وقبالتي جراح وأوطان تتعرّق وتتهاوى أمام الرافدين يتعثّران بالكتابات المسمارية تنسحب نحو الشرق والغرب لتُطلّ  على الإهرامات في الجنوب تحفظ بقايا الهيروغليفية تحت إبطها، وأمضي تزحلقاً نحو ندوب القارة السمراء المتواصلة، متسائلاً عجباً لماذا لا نعبر عرباً فنبرع مجدّداً وتغدو أرضنا ربوعاً فنُرعب ونوزّع عبرنا على أهل الكرة.

لماذا؟

ببساطة، لأنّ الكريات التي تدافع عن تخوم الفكر والوطن العربي قد هزلت ويبست.

وأشعر بعدما أغسل الكلمات أو أنقعها بذوراً، وأخرج بها فلاّحاً إلى كتابة السطور المستقيمة أنّ لا همّ لنا سوى الحرص على استقامة الأثلام أو تجليسها في يابسة العرب جاهدين في إيقاظ يابسة البشر البوار.

لنعترف بأنّ أجدادنا ولدوا من طحين الصخور وملوحة الرمال والبحار وكانوا رحم الحضارات الأولى. لم نحفظ رجولتهم وكراماتهم. كانوا أبلغ رقيّاً منّا. كانوا يتركون زوجاتهم وبناتهم يرمون الحبوب اليابسة في الأثلام انتظاراً للربيع الآتي، ونحن بتنا عبيداً لقروش أو وجوهٍ غريبة مثقوبة تبيّض أيام الكثير من كتّابنا إذ تسوّد بياض الصحف والنصوص،أو ترسمنا مستقيمة فوق الشاشات، وقطعاً ليس بفضل المهارات والقيم والمثل العربية التي تمّ دفنها في عقولنا وسلوكنا وبين أصابعنا الموروثة.

صرنا مشاعات كتابية بعدما حلّ “ربيع العرب” في أرضنا مثل قطعانٍ الماعز لا رعاة لها، وبعدما هشّم الحطّاب الأميركي باب العراق بوحشيةٍ قبل عقدين، رحنا نطوّق حضورنا ونصوصنا بمزدوجات تنطق بنفورنا من من أنفسنا وتواريخنا المتراكمة المشقوعة كما الفحم.

أُنظر إلى الطاقات المنبعثة أو الكامنة في أجساد الكلمات كلّها وكأنّها شوائب في جبين الحضارات التي خرجت من شفاه أجدادنا قبل أن يُكمل التاريخ فترة رضاعته وها الدنيا تلفّ العصر بعقال “اللوغارتمية” خاصتنا لتقود البشرية في الأزمنة والأمكنة الأرضية والفضائية.

من قال بأنّ السمكة الصغيرة لم تسمن فتصير حوتاً يخزّن الحبرُ والدم لا ليكسد أويبكي عجزه أو شيخوخته أو موته، بل ليحرّك هذا التخلّف العتيق المتكدّس في البحر العربي؟

أتجاسر بالكتابة أبداً، قافزاً من جوف البحر نحو بيادر الحصاد، ولو حضنت نصوصاً عصرت لزاجتها حفاظاً على شبابها أعني شباب أجدادي وأمهاتي. هو خروج مؤقّت مشغول بسين الغد، وأتطلّع عبر تلك السين بكونها سفينة الخلاص نحو أحفادنا الذين سيروّضون عقل الغرب بألسنتهم الجديدة وإدراكهم العظيم لما كابدناه وعشناه، ونحن الذين سبق  وقرعنا أبواب الشرق والغرب، قبل أن تزحف قوى العالم إلينا.

ليس من اللياقة في الإبداع والمواقف، أن يستمرّ كاتب فينا، يطرح نصوصاً للقراءة أو للمناقشة في إطار من استيراد العقلانيّة ورصف الحجج والبراهين الهندسية في زمنٍ عربي دموي سريع، نلهث وراءه جميعاً بالأذن والعين والحبر وهو يدور سائحاً في مدن العرب وأحزانهم الطويلة.

هو دم فوق أرصفة مدن العرب وقراهم نقفز فيه من دمعةٍ إلى أخرى ليخرج واحدنا كاتباً أو محلّلاً في نص خجول لا يساوي إختناق سمكة فوق رمل شواطيء  المتوسط قبل لفظها للقداسة في حرية الأقلام والألسنة تجاه أزمات الحضارة والأديان .

إلى أين تقودنا الكتابة ومحاولات النشر الإفتراضية إذ تتخطّى في وعرها مدى الشهوة في خطى أجدادنا الأوائل بحثاً عن كلأ وماءٍ ومأوى في مراعينا وصحارينا؟

تتنهّد النصوص العربيّة والإسلامية عقوداً أمام عجزها، وخوفاً من ذبول القول والكتابة في الامتداد العربي المجبول بتراكم الأزمات، أقول تطوي حضاراتنا رموشها خجلاً المقدّمات والمقالات. صدّقوني ليس سهلاً، ربما، الإفصاح عن مدى العجز والقهر والمكابدة لدى الكتّاب والمفكّرين والمثقفين وأساتذة الجامعات العرب، وأنا فيهم ومنهم، أضع، كلّ لحظة، يد حبري على قلب عواصم العرب لأقيس مدى الخوف من المستقبل، ثمّ أتفحّص مدى ضيق العرب في سجونهم.

قد نقرأها نصوصاً شعرية أو نسمعها غنائية في الأمسيات الحزينة الصفراء الباردة ، في العواصم الفارغة إلاّ من حيرة ورتابةٍ ودماء. عمّ نبحث في الكتابة المتكرّرة المقتضبة إلا عن تقديرنا الهزيل لتواريخ لن ينضج العرب فيها فوق نيران معظم “الثورات” العربيّة التي لم ولن تورثنا حتّى رماد التغيير؟

ماذا تعني النصوص والكتابة العربية الآن أو حفلات توقيع عفواً توقيح الكتب في المعارض المشتّتة سوى مظاهر الكتابة في عصرالإنحطاط الجديد وجفاف الحريّة وضمور الإنسان، أو تلك الساديّة الثقيلة المخلوطة بتوابل الشرق والغرب، والمدموغ بفضح شهيات إقليمية ودولية واسعة، مبهمة وتائهة في الأحاجي والمتناقضات؟

لقد رموا أوطاننا وشعوبنا بين أصابع الدول الكبرى وتطلّعاتها، وانقسمنا مجدداً بين شرق وغرب ودين ودين وطائفة وطائفة وحزب وحزب وقبيلة وقبيلة ووطن وآخر، لكن لا يمكننا نسيان مقولة شديدة الأهمّية هي أن أصابع الدول الكبرى تبقى متشابكة في السرّ والعلن منذ الحرب العالمية الثانية لا تكسر عزّة أو عظمة بعضها البعض. هناك رفق تاريخي سرّي يجمعها، وإلاّ لن يكون هناك طموح عظمةٍ وحضارةٍ يستقيمان في الأرض. ستبقى قيادة الشرق الأوسط مستحيلة على دول العالم كما كانت تاريخياً، وخصوصاً، بعدما رفعت الحدود بين بلدانها، ولن يفيد دفع العظمة الدولية الى إستيلاد التجربة العثمانية أو التجارب الإمبراطورية الدينية التي حكمت بلاد الإسلام أربعة قرون، أو التفكير في استعادتها بعد ميلاد إيران الإسلامية 1979 وتشظيات الدول الإسلامية وتبعثرها أو بعث الصياغات الجديدة في تفاهماتٍ سرية جديدة.

الكتابة إذن؟

لم يبقَ سوى الكتابة بحثاً عن العروبة.

نعم.لا مأوى سوى الكتابة ولو بدت غيوما تلبّدت فوق إرتجال الألسنة وميوعة المواقف. الكتابة كي لا تنخر الأمراض أجساد الكلمات فلا يداويها طبيب أجنبي ولا قدرة لها على النمو في الصدور أو في الخزائن التاريخية المنسيّة المخلّعة من الجهاديين في وعور الزعامات الجديدة الفاتحة أذرعها لمعانقة الأعداء. أهرَب نصوصاً أحصدها مجبولةً بالدم وأرميها فوق البيادر تحت الشمس والكواكب بانتظار زمن يعيد  فيه أجيالنا الآتية عجنها ملاطاً لإعادة البناء أو ترميمه .

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى