بقلم د.حيان سليم حيدر
مساء يوم السبت في 18 تشرين الثاني من عام 1967 فاجأنا رئيس الوزراء البريطاني هارولد ويلسون بقرار حكومته تخفيض سعر صرف الليرة الإستيرلينية من 2,80$ لليرة إلى 2,40$.
كنت تلميذًا في جامعة لندن يومذاك. وفي غضون أيام، أكرّر أيام معدودة، صدرت قرارات مالية أذكر ما كان يهمّنا منها في إعادة تنظيم حسابات مصاريفنا الدراسية والمعيشية، والبعض منا كان يخطط لتكاليف زيارة دول أوروبية مجاورة خلال فرصة الأعياد. وفورًا حدّ القرار من إمكانية إخراج أكثر من 150 ليرة بالسنة لغايات السياحة الخارجية. نعم، خلال أيام. ولم تكن لا الدولة مفلسة ولا ليرتها في حالة إنهيار.
وتُعيدنا أخبار الإنهيارات إلى إجراءات مشابهة إتّخذتها دول مرّت بأزمات مالية مؤخّرًا مثال اليونان وقبرص والأرجنتين وغيرها، حيث تمّت المعالجة من طريق إصدار قانون مناسب خلال أيام.
ليس سرًا أنّ لبنان مشاها خطىً، لم تُكْتَب عليه أبدًا، في مسيرة إنهيارية منذ مطلع هذا القرن، لكنه آثر على المكابرة (الإسم الحركي للكذب) وهو لا يريد أن يعترف حتى بتقارير الموسّسات الدولية المعنية مثال البنك وصندوق النقد الدوليين وغيرهما، وتقاريرها التحذيرية بالإنهيار الوشيك وصلتنا في حينها وكُتِمَت عن الناس منذ العام 2016 بطلب مباشر من الرسميين اللبنانيين المعنيين.
منذ تشرين لبنان الإنهياري في العام 2019 والكلام يدور حول موضوع ما بات يُعْرَف بالعربي الفضيح بالكابيتال كونترول، هذا اللغز السحر.
وبعد مرور سنتين ونصف السنة، والعدّاد ما زال يدور، وافق مجلس الوزراء بتاريخ 30-3-2022 على مشروع قانون معجّل يرمي إلى وضع ضوابط إستثنائية وإستنسابية ومؤقّتة على التحاويل المصرفية والسحوبات النقدية وغيرها من الأمور لم يكشفوا عنها… مع الإصرار على القول أنّه كان يجب تنفيذ هذا الأمر منذ الأيام الأولى للأزمة. قاتل الله العجلة !
توضّح دراسة حديثة (1) أنّ هذا القانون إذا ما صدر سيشكل خرقًا للدستور، بل إنقلابًا عليه وعلى وثيقة الوفاق الوطني كونه ينقل جزءًا من صلاحيات سلطة دستورية إلى لجنة خاصة بصلاحيات إستنسابية يعيّن أعضاؤها وتُحَدّد آلية عملها بقرار، مشيرًا إلى أنّ رئيس الحكومة الذي يعيّنها يصبح حكمًا هو اللجنة. ثمّ تكمل: هذه اللجنة (رئيس الوزراء) تقترح النصوص التطبيقية ومجلس الوزراء (أي هو نفسه) يصدرها، والأفدح أنّها هي تمدّد لنفسها، والأفضح أنّها تقترح أن تكون قرارات اللجنة مبرمة غير قابلة للطعن. وما أدراك؟
لقد تمّ الدمج (لا إراديًا طبعًا) بين الـ ك.ك. (الأسم الحركي للقانون) وقانون ضمان الودائع. فالأموال لم تعد مكفولة ومحمية دستوريًّا وقانونيًّا بل تصبح محلّ نزاع ومصادرة وتقييد وإنتهاك.
ثمّ أنّ مشروع القانون يتضمّن مولود غبّ الطلب تحت مسمّى “الأموال الجديدة”، بدعة أخرى في مخالفة الدستور. علمًا أنّ كلّ ما سبق فيه تعدي على سلطة القضاء المنصوص عنها في المادة 20 من الدستور كون هذا القانون يسري على جميع الإجراءات القضائية المقدمة والتي ستقدّم. وبالتالي اللجنة تقترح وتطبق وتضع القيود وتنشر القرارات ولديها صلاحيات إستنسابية واسعة. وقد أصبحت، من خلال هذه الصلاحيات، هي التي ترسم السياسات الإقتصادية للبلاد وتنفّذها.
ما يهمّنا الآن هو أنّ بعد هدر 20 مليار دولار منذ تشرين 2019 يناقشون قانون الـ ك.ك هذا.
تعالوا نرسم معًا إبتسامة على وجه القارىء. لقد أدلى أحد النواب على أثر خروجه من جلسة اللجان المشتركة ومن على الشاشة بما يأتي: “دخلنا في التعريفات وأوضحناها ونحن بحاجة إلى لجنة تصدر الإجراءات التطبيقية لتطبيق مندرجات قانون الكابيتال كونترول وهذه اللجنة أخذت سجالًا حول مرجعيتها القانونية”. أخذت سجالًا يا سعيد الحظّ؟ بالله عليكم؟ علينا الإعتذار عن وقت السجال الذي تحمّلتموه بسببنا !ّ
ويصرّح نائب آخر: “قمنا “بتشحيل” بعض مواد القانون”، ليعقّب الأعلى منهما شأنًا بالقول: “كلّ ما يقال عن تفريط بحقوق المودعين وضرب القطاع المصرفي هدفه إثارة البلبلة وتوتير الأجواء”. ثمّ يردف نائب “حريص”: “إتفقنا على الإسراع”، الإسراع؟ أي قبل الإنتخابات أو بعدها، وبعدها طار النقاش فيه وحوله فعلًا؟ وكلّ هذا بعد ثلاثة أعوام؟ فعلًا قاتل الله العجلة !
ويسألني البعض: ما قصة “قاتل الله العجلة” هذه يا حيّان؟ لأجيب: ” قاتل الله العجلة…” عبارة قالها النائب سليم حيدر إبتهاجًا بصدور قانون ما 34 سنة عامًا بعد إقتراحه.
وبالعودة إلى عِدّة الشغل الرامية إلى تضييع الأمور مع الحقوق، طلب نواب “حريصون” على البلد بربط قانون الـ.ك.ك. بالخطة الإصلاحية الشاملة، يا عين، أو بخطة التعافي. ونذكّر أنّ في “أيام اللولو” والهدوء النَكَدي النسبي لم تتفقوا على خطط إصلاح. يعني تخْبْزوا… إذا توفّرت لكم المادة.
تزامن هذا كلّه مع تنظير إعلامي (أوردنا بعضًا منه في (2) أدناه)
وخطة التعافي تعني، من الخبرة: إمّا خطة محكمة لعدم معالجة أيّ أمر بما قد يفضح المسؤولين عن الخراب، أو بجهل الموضوع، ولا أعلم أيّهما أكثر تخريبًا، أو بالإثنين معًا وهو دائمًا ما يكون الأرجح في حالة لبنان.
مع تأكيدنا أنّ الوظيفة الأساسية لهكذا قانون هي تقييد السحوبات والتحاويل، إذ لا يجوز أن يُسْتَغل الأمر وسيلة لإعطاء براءة ذمة على الجرائم المالية السابقة.
ويتساءل البعض بحقّ: هل من حاجة بعد اليوم إلى جميع وكلّ الهيئات الرقابية المُنشأة على مرّ جمهوريات لبنان، من الإدعاء المالي إلى ديوان المحاسبة فإلى التفتيش على تفرّعاته وإختصاصاته وإلى لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفية العليا وهيئة التحقيق الخاصة ومفوضي الحكومة في كلّ مكان ومن مراقبين ومدققين… إلخ… ولن نزعج هيئة محاربة الفساد المعنية مؤخّرًا بهدف تفعيل قانون الإثراء غير المشروع الصادر في شباط العام 1953. قاتل الله العجلة !
نحن الآن بصدد إقرار قانون للموافقة جبرًا بإسم الشعب، ضدّ الشعب ونكاية بالشعب، قانون لن تعلم ماذا يحمي، ولا مَن يحمي، ولا كيف يحمي يعمل من طريق توسيع صلاحيات القوى ذاتها المسؤولة عن الإنهيار. فإذا كان هذا رأس حربة الخطة الشاملة للإصلاح والتعافي، كما أسموها، فما بالك بالحربة نفسها؟
وكما العادة، وإمتثالًا بالجدل الأزلي على المادة 95 من الدستور اللبناني، فإنّ “مؤقّتة” اللجنة لا شكّ ستدوم إلى ما بعد نهاية لبنان الذي “بات يشبههم”.
فعلًا، من تفاصيل وصفها الوظيفي ومَن يشكّلها ويتحكّم بها، نحن الآن بصدد لجنة، ذكّرتنا بالمقولة المكرّرة عبر الزمن: “كَمَنْ يُعيّن “دراكولا” أمينًا على مستودع بنك الدم”.
هذا كلّه يُشجّع، بل يُحتّم على المرتكبين نفسهم إرتكاب المزيد من الجرائم المالية بل إلى إبتداع جرائم “خلّاقة”. وتريدون بهذا كلّه إستعادة الثقة بالإقتصاد اللبناني، على قول المسؤولين؟ يا لها فعلًا من شعارات تصلح، بإمتياز، لشعبويات إنتخابية.
– والحل؟؟ الحلّ كان وبقي هو نفسه ولبنان يعرفه، والأنكى، أنّ لبنان قد طبّقه في السابق. في شهر حزيران من العام 1967 صدر مرسوم إشتراعي حكم، لمدة خمسة أيام حرب حزيران، بأحكام ضبطت موجة الهلع وإنفلات التحاويل وما يرافق ذلك. لا لجنة وميثاقية تشكيلها، ولا مداولات نَكَدية لا نهاية لها، فقط قانون يسري على الجميع وعلى كلّ الأموال في المصارف وفقًا للدستور ولوقت محدّد ريثما تعود الأمور إلى طبيعتها، هذا إذا عادت. هكذا يكون الهدف الرئيس من وراء إجراء الـ.ك.ك.: قرار فوري لمنع خروج الأموال. وكلّ صلاحية إضافية هي بمثابة جريمة مضافة.
40، 60، أو 70 مليار من الدولارات “الفريش” قيل أنّها ذهبت يا جماعة، والأدقّ قد يكون 72. ونحن نمارس النكد السياسي في التعاطي مع إصدار قانون كان ضروريًّا في حينه؟ وبهذا الصدد نقول للتنفيس:
إن كانوا أرْبْعين مليار وإن كانوا ستين مليار
وإن كانوا سبعين مليار هالنجّار وهالعدّة (3)
بالمقارنة، الليرة الإسترلينية خسرت 14% من قيمتها يومذاك، أمّا ليرتنا فخسرت 95% من قيمتها، حتى الآن، وما زلنا نبحث عن حلول للهروب من المسؤولية ومن الماحسبة، فنحن لا نريد لا تحديد الخسائر، ولا تحديد المسؤولين عن الإنهيار، وحتما لا نبتغي تحديد الجهات التي عليها أن تتحمّل، أي توزيع الخسائر.
هذا القانون هو عفو عام جديد، على غرار عفو عام 1991 ولكن بِمُسَمّى جديد بإسم ك.ك. حيث ألـ ك. الأولى طارت أمام العيون الشاخصة، والـ ك. الثانية لن تعرفها في حياتك. وبجمعهما تكون قد جمعت قيمة تعبك.
بيروت، في الأول من أيار 2022م. حيّان سليم حيدر
عيد المنهوبين باحث عن عفو من جرائم الظَنّ.
________________________________________________________
(“) إنّ الكلمات الواردة بين “هلالين” قد لا تعني بالضرورة ما تعنيه.
(1) دراسة أجراها الخبير المالي النقيب أمين صالح.
(2) من أقوال الصحف: – أنّ المزايدات طيّرت الـ ك.ك.، (وليس السرقة والفجور وال…) – تتفاعل الردود لتقول أنّ الورقة ليست سلبية بالكامل ولا هي إيجابية بالكامل، (أي لا شرقية ولا غربية) – مقابل لا مصارف من دون مودعين ينتصب القول: لا مودعون من دون مصارف.
(3) إن بدعة تهميش رأي الشعب الحرّ كثيرة الأمثلة في تاريخ لبنان، ويظهر أنّنا لا نتعلّم من تجاربنا في مجال الإصلاح الإنتخابي، وفي غيره طبعًا. وللترفيه، ربّما يسعفنا (أو يؤسفنا) الإقتباس من قصيدة للنائب الراحل سليم حيدر (لم تكن لِتُنْشر) أُلقيت بالشعر الشعبي العامي (قرّادية) في البرلمان اللبناني لمناسبة مناقشة الثقة بإحدى حكومات لبنان، وخلَال وقت إنتظار إكتمال النصاب في مجلس بعد العام 1953، وممّا قاله فيها:
وإن كانوا أربعه وأربعين وإن كانوا سبعه وسبعين
وإن كانـوا تسعـه وتسعـين هـالـنجّـار و هالـعـدّه
والأعداد تشير هنا الى عدد النواب الذي تعدّل مرارًا خلال العقدين الأولين ما بعد الإستقلال ولم يتغير أيّ شيء جوهري في الممارسة السياسية البرلمانية.