“الكابيتال كونترول”: حلم لكبار النَّافذين وكابوس للمودعين(عادل مشموشي)
بقلم العميد المتقاعد د.عادل مشموشي
غريبٌ أمرُ رجالِ السُّلطَةِ كيفَ أصبحوا فجأةً مهووسين في الكابيتال كونترول، وأضحى هذا العُنوانُ شُغلَهُم الشَّاغلُ. لقد استفاق الشَّعبُ اللبناني بعدَ ليلةٍ ليلاءَ على مَشروعِ قانون الكابيتال كونترول الذي أقرَّتةُ الحُكومةُ الحاليَّةُ العَتيدةُ على عجلٍ، وأُحيلَ بسُرعَةِ البَرقِ إلى المجلِسِ النّيابي، وفوراً حُوِّلَ إلى اللِّجانِ النِّيابيَّةِ المُختصَّةِ لدراسَتِهِ. سلك مشروعُ القانونِ المُشار إليه خَطَّاً عَسكَرِيَّاً وفقَ المُصطلَحاتِ العامِّيَّةِ التي استُعمِلَت إبَّانَ الحَربِ الأهلِيَّة، مُتَجاوِزاً عَشراتِ ورُبما مئاتِ مَشاريعِ واقتِراحاتِ القوانينِ المُهمَلةٌ في أدراجِ المَجلِسِ النِّيابي ولِجانِه.
وأغرَبُ ما في الأمرِ أن لبنانَ على أبوابِ انتِخاباتٍ نِيابِيَّةٍ، ما يَعني أن كُلاَّ من أعضاءِ مَجلِسِ الوزراءِ ومَجلسِ النُّوابِ في أيامِهما الأَخيرَةِ، لكونِ الحُكومَةِ بمُجرَّدِ حُصولِ الانتِخاباتِ تُصبِحُ حُكومَةَ تَصريفِ أعمالٍ، أمَّا المَجلِسُ فيُحَلُّ حُكماً ليَحُلَّ مكان الأعضاءِ الحاليينَ ،الأعضاءُ الجُددِ الفائزون بالانتِخابات.
والأغرَبُ من كُلّ ذلك هو الإصرارُ على عقدِ جلساتٍ مُتلاحِقَةٍ لتَمريرِ هذا المَشروعِ وإقرارِهِ على وَجهِ السُّرعةِ رَغمَ ما يَلقاهُ من مُعارَضَةٍ على مُختلِفِ المُستوياتِ الشَّعبِيَّةِ والنِّقابِيَّة، حتى بين الكُتلِ النِّيابِيَّةِ الحالِيَّة. وقد عَبَّرت كُلُّ تلكَ القِوى والنِّقاباتٍ وهيئاتِ المُجتَمَعِ المَدني بالإضافةِ إلى عشراتِ الخُبراءِ الاقتِصاديين والماليين، عن مُعارَضَتِهِم الواضِحَةِ لإقرارِ هذا القانون، وبخاصَّةٍ في ظِلِّ المَرحَلَةٍ الانتِقاليَّةٍ الحَرِجَةِ التي يمُرُّ بها الوَطَن.
إقرارُ قانونٍ يُعنى بضَبطِ وتَقييدِ التَّحويلاتِ والسُّحوباتِ المالِيَّةِ أي ما يُسمَّى بال Capital control) ) إبَّانَ الأزَماتِ الاقتِصاديَّةِ والماليَّةِ الحادَّةِ لَهو أمرٌ أساسيُّ لِحِمايَةِ الاقتِصادِ الوَطَني ومالِيَّةِ الدًّولَةِ والقيمَةِ الشِّرائيَّةِ للعِملَةِ الوَطنِيَّة، إلاَّ أن مُحاولةَ تمريرِهِ بعد فَواتِ الأَوان، وبعد تَمكينِ النَّافذينَ في الدَّولَةِ وأصحابِ رؤوسِ الأموالِ الكبيرَةِ من مُقاوِلينَ وأصحابِ الأسهٌمِ في المَصارِفِ وكِبارِ المُديرين لدَيها، والسَّعي بعد كل ذلك لتقييدِ حركةِ إيداعاتِ صغار المودعين وتعويضاتِ نهايةِ الخدمةِ للموظَّفين والعمالِ، لأمرٌ يدعو للقلَقِ والرَّيبَة، والتَّوجسِ من مُحاولاتِ جعلِ ما تبقى من إيداعاتِ بمثابةِ تأمينٍ لسدِّ فواتيرِ إخفاقاتِ سياساتِ الطَّبقةِ الحاكمةِ التي توالت على السُّلطةِ وتولت إدارةَ الشأن العام، بل خشيةَ سَرِقةِ ما تبقَّى منها.
إن الإصرار على إقرار مثل هكذا قانون يَدعو للتَّساؤلِ عن الجِهاتِ المُستفيدَةِ من إقرارِه ووضعه موضع التَّنفيذِ في هذة الفَترَة الحَرِجَةِ بالذَّات، أهو استِجابةٌ لشُروطِ صندوق النقد الدَّولي لللإفراجِ عن عِدَّةِ ملياراتٍ من الدولارات، لا تتجاوزُ الأربَعَة، وقد صَرفنا أربعَةَ أضعافِها خِلالَ سنتين على ما سُمِّيَ بدَعمِ بَعضِ السِّلعِ الاستِهلاكِيَّة، ولكن لم يَستَفِد منها سِوى كِبار المُحتَكِرينَ الذين استَغلُّوها لجَني أرباحٍ هائلة، وتَهريبِ ما لَديهِم من أموالٍ إلى خارجِ لُبنان باعتِمادِ فواتيرَ وَهمِيَّةٍ أو مَلغومَة؟ أم أن إقرارَهُ يأتي لإسدالِ سِتارٍ على صَفحاتِ الماضي السَّود وتَبرِئةِ كِبارِ المُرتَكِبينَ والمُتلاعِبينَ بمُقدِّراتِ خَزينَةِ الدَّولَةِ وموجوداتِ مَصرِفِ لُبنان من العُمُلاتِ الصَّعبَةِ وأموالِ المودِعينَ في المَصارفِ اللبُّنانِيَّة؟ أم لوَضعِ مُعوِّقاتٍ قانونيَّةٍ تَحولُ دونَ مُلاحَقَةِ المُرتَكبينَ والضَّالِعينَ بتَبديدِ الأموالِ العامَّة؟ أم لإعفاءِ المَصارِفِ اللبنانيَّةِ والمُساهمينَ فيها من التِزاماتِهم تِجاهَ مودِعيهم بإدارَةِ تِفليسَةٍ غير مُعلَنَةٍ لتلك المَصارِفِ، تَحولُ دون تَمكينِ المودِعينَ المُتضَرِّرينَ من مُراجَعَةِ القَضاءِ المُختَصِّ للمُطالَبَةِ بحُقوقِهِم؟ أو للحؤول دون مُلاحَقَةِ المَسؤولين عن الإفلاس الاحتيالي الذي ينبغي أن يُسألَ عنه بالتكافُلِ والتَّضامُنِ المُساهمِونَ في المَصارفِ والمُديرون التَّئفيذيون فيها؟
إن مُحاولَةَ إقرارِ قانونِ الكابيتال كونترول ولو جاءَت مُتأخِّرَةً كان من المُمكِنِ القُبولُ بها لو جاءَ الطَّرحُ من حيثُ الشَّكلِ والمَضمونِ مَقبولاً أو مُبرَّرا عقلاً ومنطقا، وكادَ يكون مُبرَّراً لو أُقِرَّ مع خِطَّةِ نُهوضٍ وتَعافٍ اقتِصادِيٍّ مُتكامِلَةٍ تأخُذُ بعين الاعتِبارِ الأوضاعِ المَحلِّيَّةِ والإقليميَّةِ والدَّولِيَّةِ الرَّاهِنَة، أو لو تَزامَنَ طَرحُهُ مع طرحِ سَلَّةٍ من القوانين الإصلاحِيَّةِ التي تَضمَنُ بالحَدِّ الأدنى إعادَةَ الأَموالِ التي هُرِّبت للخارِجِ قُبيلَ انكِشافِ أو الإعلانِ عن الإنهيارِ المالي، سَواءَ حَصَلَ ذلك بتِعليمَةِ من المُطَّلِعينَ على وَضعِ موجوداتِ مَصرِفِ لُبنان أم من دونِها، كما مع ضَماناتٍ تكفلُ استِعادَةَ الأَموالِ التي تَمَّ الاستِحصالُ عليها على نحوٍ غيرِ مَشروع، سَواءَ بصَفقاتٍ مَشبوهَةٍ أو من خِلالِ التَّلاعُبِ بدَفاتِرِ الشُّروطِ أو كَعُمُلاتٍ ورَشاوى… كذلك ضَماناتٌ تكفلُ مُلاحَقَةَ المُرتَكبينَ خِلالِ العَقودِ الثَّلاثَةِ الماضِيَةِ في كُلِّ ما له عَلاقَةٌ بالإثراءِ غَيرِ المَشروعِ، سَواءَ من خِلالِ التَعدِّي على الأملاكِ العامَّةِ أو تَبذيرِ الأموالِ العامَّةِ أو تَبديدِ احتِياطي مَصرفِ لُبنانَ من العُمُلاتِ الصَّعبَةِ وغيرِها من الجرائمِ الاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والنَّقديَّة. أما من حيث المَضمون فيؤخَذُ على ما تَضَمَّنَهُ مَشروعُ القانونِ من بُنودٍ من شأنِ العَمَلِ فيها تَبريرُ انتِهاكاتِ من تَعاقَبوا على إدارَةِ الشُّؤونِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّة، أو وَضعِ العَراقيلِ التي تُعيقُ مَلاحَقَتَهُم ومُحاسَبَتَهُم سِياسِيَّاً وجزائيَّا.
إزاءَ إصرارِ بعضِ المَسؤولين على تَمريرِ هذا القانون، يَنبغي أن يُجابَهَ برَفضٍ كُلِّيٍّ من قِبَلِ مُختلِفِ مُكوِّناتِ الشَّعبِ اللُّبناني، وبخاصَّةٍ بعد أن تَكشَّفَت معالِمُ الأداءِ الهابِطِ لمُختلِفِ الجِهاتِ السِّياسِيَّةِ التي ساهَمَت في إدارَةِ شُؤونِ الدَّولةِ، والتي لم تَعُد مآثِرُها الكارِثيَّةِ بخافِيَةٍ على أحد، والتي يَتخَبَّطُ اليومَ لبنان جرَّاءَها بأزمَةٍ كيانِيَّةٍ وأُخرى مَعيشِيَّةٍ حادَّة. والتَّعبيرُ عن الرَّفضِ ينبغي أن يُترجَمَ عمليَّاً أي بسُلوكِيَّاتٍ إيجابِيَّةٍ، تقومُ على الإحتِجاجاتِ والتَّظاهُراتِ والنَّدواتِ والتَّعبيرِ صَراحَةً عن هذا الرَّفضِ قولاً وكِتابة، وبيانِ مَخاطِرِ السَّيرِ بهذا القانون بمعزَلٍ عن خِطَّةٍ إنمائيَّةٍ إصلاحِيَّةٍ مُتكامِلَة.
إن ما ينبغي العَملُ عليه والضَّغْطُ في سَبيلِ تبنيه والعملِ وفقَ روحيَّتِه، هو إقرارُ ما يلزَمُ من قوانين واتِّخاذ قراراتٍ قَضائيَّةٍ وإداريَّةٍ احتِرازِيَّةٍ تَحولُ دون إفلاتِ أيٍّ من المُرتكبينَ من المُلاحَقَةِ والعِقاب، كما علينا، وكلٌّ من مَوقِعِه، السَّعيُ من أجلِ تَجميدِ كافَّةِ الأموالِ المُحوَّلةِ للخارجِ لتَلافي التَّصرُّفِ بها أو إخفاءِ مَصادِرِها واعتِبارِها أموالاً مَشكوكا بِشَرعِيَّتِها، إلى أن يَتَمَكَّنَ أصحابُها من إثباتِ مَشروعِيَّةِ الاستِحصالِ عليها.
ومن اليومِ وإلى أن يَخرُجَ من رحمِ الجِهازِ القضائيِّ قاضٍ جَريء ومَسؤول، ينفُض عن منكبيه عباءة الانتِماءِ السِّاسي، ويرفضُ الخنوعِ، ويأبى الوقوفِ موقفِ المُتفرِّجِ من كل ما يَحصلُ من انتِهاكاتٍ قانونِيَّةٍ وتَعدِّياتٍ على الحُقوقِ والمٌكتَسبات، ويُشهِرَ سَيفَ الحَقِّ نُصرَةً للعَدالَةِ وإنصافَاً لأصحابِ الحُقوقِ المُنتَهَكَةِ، عَلينا جَميعَاً وبخاصَّةٍ رِجالُ الفِكرِ والخُبراءِ الاقتِصادِيينَ والمالِيينَ ورِجالُ القانونِ ،التَّحلي بالمَسؤوليَّة، وكَسرِ حاجزِ الخَوفِ وقَولِ كَلِمَةَ حَقٍّ في وَجهِ كُلِّ السَّلاطينِ اللُّبنانيينَ الجائرينَ، بغَضِّ النَّظَرِ عن الألقابِ التي يَتلطُّونً خَلفَها أو المَواقِعِ التي يَحتمون بها، أو الطَّوائفِ والمَذاهِبِ التي يدَّعون الدِّفاعَ عن مُكتَسباتِها، وهم في الحقيقةِ يُسَخِّرونَها فَقط لتَحقيقِ مَصالِحِهِم على حِسابِ الوَطنِ والمُواطن.