“القرض الحسن” :بين واقع مالي مأزوم وخدمة اجتماعية بديلة (أسامة مشيمش)

بقلم د. اسامة توفيق مشيمش – الحوارنيوز
في وقتٍ تعاني فيه البلاد من واحدة من أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية في تاريخها الحديث، يطرح اللبنانيون سؤالاً مشروعاً: من الذي خدمهم فعلياً؟ هل كانت المصارف التجارية الكبرى هي الجهة التي ساعدتهم على عبور محنتهم، أم أن مؤسسات مالية بديلة، على رأسها “جمعية القرض الحسن”، لعبت دوراً إنسانياً واجتماعياً ظل بعيداً عن الأضواء الرسمية؟
الواقع أن “القرض الحسن”، المؤسسة التي تأسست منذ ثمانينات القرن الماضي، أثبتت عبر العقود قدرتها على تلبية حاجات شريحة واسعة من اللبنانيين – بغض النظر عن انتماءاتهم الطائفية أو السياسية – من خلال نموذج مالي غير ربحي يقوم على مبدأ التكافل الاجتماعي وتقديم القروض الصغيرة مقابل ضمانات عينية (غالباً ذهب)، من دون فرض فوائد مالية.
حين فشلت الدولة… نجح المجتمع
منذ انفجار الأزمة المالية في خريف 2019، وما تبعها من انهيار في القطاع المصرفي وتوقف شبه كامل لخدمات الإقراض، ظهرت المؤسسات البديلة كمتنفس محدود للمواطن العالق بين انسداد الأفق واحتجاز أمواله في البنوك. “القرض الحسن” كان واحداً من هذه البدائل، لكنه برز تحديداً لأنه استمرّ في تقديم قروض بالدولار أو بالليرة، بحسب المتوفر، مقابل رهن ذهب من دون فوائد.
لم تُسجّل حالات احتيال أو مماطلة تُذكر بحق الجمعية، بل على العكس، وثّقت آلاف الحالات لأفراد استطاعوا عبر هذا النظام البسيط والشفاف الحصول على تمويل سريع لتسيير أمورهم المعيشية، أو حتى إطلاق مشاريع صغيرة، من دون أن يتحمّلوا أعباء الديون الربوية أو المخاطر المصرفية المعقدة.
“القرض الحسن“: مؤسسة بلا طموح مصرفي
يجهل كثيرون أن الجمعية لا تسعى إلى تحقيق أرباح، ولا تمارس أعمالاً مصرفية بالمعنى التقليدي. فلا حسابات جارية، ولا ودائع، ولا مضاربة في الأسواق، ولا “هندسات مالية” على شاكلة ما فعله مصرف لبنان طيلة سنوات. وهذا ما يجعلها – حتى قانونياً – خارج إطار المؤسسات المصرفية التجارية، ما يطرح علامات استفهام حول أسباب الهجوم المتجدد عليها ومحاولات التضييق عليها.
فإذا كان المطلوب تطبيق القوانين، فلماذا لم تُطبق على من نهب مليارات الدولارات من أموال المودعين؟ ولماذا لا يُفتح ملف التحويلات إلى الخارج، أو حسابات السياسيين وأقاربهم، أو قروض الإسكان التي لم تُسدّد يوماً؟
لماذا يُضايَق النموذج الناجح؟
في بلد باتت فيه العدالة الانتقائية هي القاعدة، يبدو أن المؤسسة التي لم تطلب يوماً من المواطن أكثر من “رهن بسيط مؤقت” لقاء تمويل محدود، أصبحت اليوم في مرمى الاستهداف، فقط لأنها لم تدخل في منظومة الفساد، ولم تساهم في تراكم الدين العام، ولم تُسجَّل عليها ديون معدومة بالمليارات، كما هو حال عشرات المصارف الكبرى.
صحيح أن “القرض الحسن” يفتقر إلى بنية تنظيمية مصرفية كلاسيكية، وصحيح أنه ليس خاضعاً مباشرة للرقابة المصرفية التقليدية، لكن هذا لا يعني أن وجوده غير مشروع، بل العكس: يجب تطوير هذا النموذج بدل التضييق عليه، خصوصاً في ظل غياب البدائل.
من النقد إلى البناء: هل آن أوان “القرض الحسين“؟
بدل شيطنة النماذج المجتمعية الناجحة، ربما يكون من المفيد البناء عليها. فلو تكرّست فكرة “القرض الحسن” كنموذج تعاوني في مناطق أخرى، تحت مسميات وطنية جامعة مثل “القرض الحسين”، “القرض العُمَر”، أو حتى “القرض اللبناني”، لأمكن خلق شبكة أمان مالية اجتماعية موازية تساهم في إنعاش الدورة الاقتصادية من القاعدة إلى القمة.
هذا لا يعني طبعاً غضّ الطرف عن الحاجة إلى قوانين ناظمة، ومحاسبة شفافة، بل العكس. لكن ذلك يجب أن يشمل الجميع: من كبار المصرفيين إلى أصغر جمعية.
خاتمة
لبنان اليوم ليس بحاجة فقط إلى قروض، بل إلى عدالة. ليس بحاجة إلى إجراءات عقابية، بل إلى محاسبة عادلة تشمل الجميع. وفيما ينهار النظام المصرفي التقليدي تحت وطأة فساده وسوء إدارته، يبقى أن نقرأ المشهد بموضوعية: ليست كل جهة غير تقليدية هي متّهمة، وليس كل “قرض بلا فائدة” هو خطر على الدولة. أحياناً، يكون الحل في الهامش، لا في المركز.



