
بقلم د. عماد عكوش – الحوارنيوز

بدأت ظاهرة تهريب الأموال من لبنان تتصاعد بشكل ملحوظ مع بوادر الأزمة الاقتصادية في عام 2018، حيث شهدت الفترة بين 2018-2021 تحويلات كبيرة للأموال إلى الخارج من قبل شخصيات سياسية واقتصادية بارزة . وتشير التحقيقات القضائية إلى أن هذه التحويلات تمت عبر قنوات غير مشروعة أو باستغلال الثغرات النظامية في القطاع المصرفي اللبناني .
وقد بلغ حجم الأموال المهرّبة منذ بداية الأزمة حتى عام 2021 عشرات المليارات من الدولارات ، وفقاً لتقديرات غير رسمية ، ووفق تقارير صدرت عن بعض المصارف ومنها مصرف لبنان. فقد بلغت صافي تدفقات غير المقيمين حوالي 6.6 مليار دولار عام 2019 ،و 6 مليار دولار عام 2020 .
في 27 اب 2020 صدر التعميم رقم 154 ، والذي دعا من حوّلوا أموالًا إلى الخارج منذ 1 تموز 2017 إلى إعادة جزء منها إلى لبنان، كما طُلب من المصارف والهيئات المالية تشجيع العملاء الذين حوّلوا ما يزيد على 500,000 دولار (أو ما يعادلها بعملات أجنبية) منذ 1 تموز 2017 على إرجاع 15% من المبالغ إلى لبنان وفق شروط حددها هذا التعميم، ومنها إذا كان العميل من كبار المساهمين أو المديرين في المصارف أو شخصيات “معرضة سياسيًا PEPs)” ، وكانت النسبة المطلوبة 30% ) . وكان يهدف التعميم الى وضع هذه الأموال المسترجعة في حسابات خاصة مجمّدة لخمس سنوات، كما ذكر بأن هذه المبالغ ستكون معفاة من الحدود الخاصة لمعدلات الفوائد المحددة من مصرف لبنان ، ومُعفاة من الرسوم الإلزامية مثل نسبة الاحتياطي 15%.
لقد كان الهدف الأساسي لهذا التعميم دعم سيولة المصارف بالعملات الأجنبية ، بما يصل إلى 3% من إجمالي ودائعها بها ، وتعزيز العمليات الخارجية للمصارف ، بالإضافة إلى تشجيع النشاط الاقتصادي الثنائي.
لقد أتى هذا التعميم بلغة الحث والتشجيع، ولم يكن ملزماط بما فيه الكفاية بحيث يمكن فرض عقوبات زجرية كافية على من يخالف هذا التعميم، لذلك لم يلتزم به اي مصرف ، كما لم يلتزم به اي مودع قام بعملية التحويل للخارج، رغم ان التعميم نبه الى ان من يتقاعس عن تطبيقه يمكن تطبيق القانون 44 عليه، وهو القانون الخاص بمكافحة تبييض الاموال وتهريبها .
أدت عمليات تهريب الأموال إلى تفاقم الأزمة الاقتصادية في لبنان بعدة طرق:
- تفاقم أزمة السيولة: حيث خسر النظام المصرفي جزءاً كبيراً من ودائعه بالعملات الأجنبية.
- انهيار العملة: ساهمت التحويلات الكبيرة إلى الخارج في زيادة الضغط على سعر صرف الليرة.
- تآكل الاحتياطيات: استنزفت هذه العمليات احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية.
- تعميق الفقر: مع حرمان الاقتصاد من موارد كانت يمكن أن تدعم الاستهلاك والاستثمار المحلي .
وفي محاولة لضبط الاقتصاد النقدي ، أصدر مصرف لبنان التعميم رقم 165 في مايو 2023، والذي أنشأ بموجبه منصة جديدة لإدارة الأموال النقدية . لقد كان الهدف المعلن من هذا التعميم:
- تشجيع إعادة الأموال النقدية المخزنة في المنازل إلى النظام المصرفي.
- السماح بفتح حسابات جديدة بالليرة والدولار مع شيكات مصرفية مدموغة بعبارة “Fresh” .
- إنشاء مقاصة داخلية لإدارة سيولة “الأموال الجديدة” .
ومع ذلك، يبقى التأثير الفعلي محدوداً بسبب عدم استعادة الثقة الكاملة في النظام المصرفي، حيث لا يزال الكثيرون يفضلون الاحتفاظ بأموالهم خارج البنوك.
سعى التعميم 165 إلى تحسين سيولة المصارف من خلال:
- جذب جزء من الكميات النقدية الكبيرة المخزنة خارج القطاع المصرفي (والتي تقدر بأكثر من 10 مليارات دولار).
- تفعيل عمليات المقاصة والتحويلات الإلكترونية بدلاً من الاقتصاد النقدي .
- تمهيد الطريق لإعادة إطلاق بعض الخدمات المصرفية الأساسية .
لكن النتائج بقيت دون التوقعات بسبب استمرار انعدام الثقة وضعف القدرة على إعادة إطلاق عمليات الائتمان والتمويل.
النائب العام المالي المعين حديثا القاضي ماهر شعيتو أصدر قرارًا البارحة يُلزم كلًّا من الأشخاص الطبيعيين والمعنويين، بمن فيهم مصرفيون، ممن قاموا بتحويل أموال إلى الخارج خلال الأزمة المصرفية والمالية، بـ:
- إيداع مبالغ تساوي ما تم تحويله إلى الخارج خلال تلك الفترة.
- الإيداع يجب أن يكون في مصرف لبناني بنفس العملة التي أُخذت.
- المهلة الممنوحة شهران لإعادة الأموال إلى النظام المصرفي اللبناني.
- تنفيذ الإجراء سيكون تحت إشراف النيابة العامة المالية وعلى الشروط التي تحددها تلك الهيئة.
يُعدّ هذا القرار خطوة جديدة ومميّزة في تاريخ مكافحة تهريب الأموال من لبنان ، لا سيما أنه يضفي طابعًا جزائيًا على عمليات التحويل التي حصلت خلال الأزمة ، وهو يقتصر على أشخاص محددين بناءً على معطيات وجود شبهة جنائية ضدهم.
مصادر قضائية أوضحت كذلك أن القرار قد يفتح الباب للمساءلة القانونية، إذ يمكن محاسبة الأشخاص المعنيين جنائيًا إن لم يقوموا بإعادة الأموال بحسب ما تم توجيههم إليه.
وفي حال نجاح جهود استعادة الأموال المهربة، فإن المستفيدين الرئيسيين سيكونون:
1. صغار المودعين: الذين يمكن أن يستعيدوا جزءاً من مدخراتهم المجمدة .
2. الخزينة العامة: عبر تعويض جزء من الخسائر التي تحملتها الدولة .
3. الاقتصاد الوطني: بتحسين السيولة ودعم النشاط الاقتصادي .
4. مصداقية لبنان في المحافل الدولية وعلاقته مع المؤسسات المالية العالمية .
في الختام ما زال الطريق طويلاً أمام لبنان لمعالجة آثار تهريب الأموال وإصلاح النظام المالي، بينما تشكل القرارات مثل التعميم 154 والتعميم 165 وقرار النائب العام المالي خطوات أولية مهمة ، إلا أنها تبقى غير كافية دون إرادة سياسية حقيقية للإصلاح واستعادة الأموال المهربة.



