بقلم محمد عبد الله فضل الله – الحوار نيوز
من الكبار الّذين أسهموا في إغناء التراث الإسلامي والإنساني بوجهٍ عام، القاضي أبو القاسم عبد العزيز بن البرّاج الطرابلسي؛ من كبار علماء الشيعة الإماميّة وفقهائهم.
لم يتّفق المؤرّخون على تاريخ دقيق ومعيَّن لمولده المبارك، وبحسب كلامهم، فقد ولد في العام 400 هجريّة، أو قبل ذلك بقليل، في حين كانت وفاته في العام 481 هجريّة.
بحسب صاحب كتاب “رياض العلماء”، فإنّ ولادته ومنشأه في مصر، في حين لا يوافق المؤرّخون على ذلك، ويقولون إنّه شاميّ الموطن والمنشأ، وكان فقيهاً إماميّاً، وليس شيعيّاً إسماعيليّاً، إذ كان المذهب الإسماعيليّ منتشراً في وقتها.
قرأ على الشريف المرتضى، وأكمل دراسته على يد الشيخ الطوسي، والشيخ الكراجي، وتقي الدّين ابن نجم الحلبي، وغيرهم.
دخل طرابلس سنة 438هـ، وأقام فيها ما ينيف على أربعين سنة، بعد أن عيَّنه أميرها في حينها جلال الدّولة بن عمّار قاضياً عليها، فاستمرّ في منصبه عشرين عاماً، وقيل ثلاثين، وكان يحضر مجلس جلال الدّولة، ويمارس نشاطه العلمي المميّز، عبر مناظرته الكثير من العلماء، ومنها مناظرته الشّهيرة لإمام مذهب المعتزلة، عبد السلام القزويني.
كان من فقهاء عصره المميّزين في القرن الخامس الهجري، بعد شيخيه المرتضى والطوسي، وتبعهما في منهجه العلمي تأليفاً وبحثاً ومناظرةً مع استقلالية فكرية خاصة تدل على فرادته.
يتّضح من كتب التّراجم وعلم الرجال، فإنّ السيّد الشريف المرتضى كان يجري الرزق على الشيخ الطوسي اثني عشر ديناراً، وعلى المؤلف ثمانية دنانير، وهذا يفيد بأن ابن البراج كان التلميذ الثاني من حيث البراعة والمنزلة العلمية بعد الشيخ الطوسي.
لذا، فإن تضلّعه ونبوغه لا ينكرهما أحد، فقد استفاد ابن البراج من علم السيد المرتضى علم الهدى كثيراً، وتخرّج على يديه مجتهداً وعالماً فذّاً، وحضر دروس بحث الشيخ الطّوسي، وكان الشيخ الطوسي يجيبه عن كثير من المسائل العلميّة التي كان يثيرها، فقد ألّف الشيخ الطّوسي كتاباً سمّاه “مسائل ابن البرّاج”، نقله الشيخ الطهراني في مقدّمة كتاب “التبيان”.”
يذكر البعض أنّ ابن البرّاج أخذ العلم عن الشيخ المفيد، وهو مستبعد، بحسب بعض المؤرخين، الّذين يرون أن الشيخ المفيد توفي في العام 413 هجريّة، وابن البراج حينها لم يكن يبلغ الحلُم. ويذكر “التستري” صاحب “المقابيس”، أنّه تتلمذ على الشّيخ “الكراجكي”، الّذي كان من الفقهاء المتكلّمين، وكان جليل القدر، وله كتاب مشهور هو “كنز الفوائد”، وأخذ عنه العلم جلّ من أتى بعده، وسائر كتبه في غاية المتانة، كما يرى العلامة المجلسي.. وهناك قول تاريخي للنّجاشي بتلمذته على أبي يعلى محمد بن الحسن بن حمزة الجعفري، صهر الشيخ المفيد، وخليفته في الكلام والفقه، ومن مشايخه، كما هو مذكور، أبو الصّلاح تقي الدين الحلبي، الذي كان خليفة الشّيخ الطّوسي في ناحية حلب.
وطبيعي لمن كان في هذه المكانة العلميّة، أن يكون مقصداً لطلاب العلم، ينهلون منه، ويتخرّجون على يديه، ويصبحون فيما بعد من أعلام الإسلام، ومنهم على سبيل المثال: “الحسن بن عبد العزيز الجهياني”، و”الدّاعي بن زيد بن علي بن الحسين بن الحسن الأفطسي الحسيني”، و”الشيخ الحسن بن حسين بن بابويه القمي”، و”الشيخ أحمد بن الحسين النيسابوري الخزاعي”، و”الشيخ عبد الجبار بن عبدالله بن علي المقري الرازي”، و”الشيخ محمد بن المحسن الحلبي”، و”عبد العزيز بن أبي كامل القاضي عز الدين” وغيرهم.
من مؤلّفاته التي تدلّ على باعه الطويل في الفقه والكلام، وتدلّ على سعة علمه وتضلّعه: “الجواهر في الفقه ” وطبع في مجلد واحد ولعله رساله عملية، و”شرح جُمل العلم والعمل” وهو شرح كتاب العلم والعمل للسيد المرتضى في قسمه الفقهي، يذكر أنّ الشّيخ الطّوسي ألّف كتابه “الجُمل والعقود في العبادات”، بناءً على طلب ابن البرّاج، وله كتاب “المهذّب” وهو كتاب فقهي جمع فيه بين الاستدلال والفتوى وإن كان الطابع العام فتوائي وقد طبع في مجلدين ، وكتاب “روضة النّفس”، و”المقرب” في الفقه، و”الموجز” في الفقه، و”عماد المحتاج في مناسك الحاج” وغيرها، ويظهر من كتبه أنها تدور بين الأصول والفروع.
هذا وتحدّث العلماء عنه، ومنهم الشيخ “منتخب الدّين” في الفهرس، كما هو مذكور في كتاب “بحار الأنوار”: “القاضي سعد الدّين أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن براج، وجه الأصحاب وفقيههم، وكان قاضياً في طرابلس.
قال عنه آخرون في بيان تلامذة السيد المرتضى، كما ورد في كتاب “رياض العلماء” للأفندي: “ومنهم أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن براج، وكان قاضي طرابلس، وكان أستاذ أبي الفتح الصيداوي”.
قال الشيخ علي الكركي في إجازته للشيخ برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم بن علي في حقّ ابن البراج: “الشيخ السعيد خليفة الشيخ الإمام أبي جعفر محمد بن الحسن الطوسي بالبلاد الشامية، عز الدين عبد العزيز بن نحرير بن البراج(قده)).)
قال التستري في “مقابس الأنوار”: “الفاضل الكامل، المحقّق المدقِّق، الحائز للمفاخر والمكارم، ومحاسن المراسم، الشيخ سعد الدّين وعزّ المؤمنين، أبو القاسم عبد العزيز بن نحرير بن عبد العزيز بن البراج الطرابلسي الشامي، نوّر الله مرقده السامي، وهو من تلامذة المرتضى، وكان خصيصاً بالشيخ ـ الطوسي ـ وتلمذ عليه، وصار خليفته في البلاد الشاميّة”. لا بل إنه حاول تحريك الجمود الفقهي في العصر الذي تلا الشيخ الطوسي من خلال مناظراته المعهودة مع شيخه في كتاب”المهذب” في مسائل فقهية عديدة وهو ما يدل على استقلاليته الفكرية وخروجه عن التقليد.
هذا بعض من أقوال العلماء بحقّه، ويدلّ ذلك على أهميّته ومكانته العلميّة في عصره والعصور الّتي تلته، فهذا “التفريشي” في رجاله يقول: “فقيه الشّيعة الملقّب بالقاضي، وكان قاضياً بطرابلس”.
كذلك، نوّه به الشّيخ الحرّ العاملي في كتابه “أمل الآمل”: “وجه الأصحاب وفقيههم، وكان قاضياً بطرابلس، وله مصنّفات”.
ومما يؤشّر على مكانته العلميّة وآرائه، ما نقله صاحب المعالم عن والده ـ الشّهيد الثاني ـ بأنّ أكثر الفقهاء الّذين نشأوا بعد الشيخ الطوسي، كانوا يتبعونه في الفتوى تقليداً له….
عاش ابن البراج في عصر دولة بني عمار في طرابلس، ولا ضير في الحديث عن هذه الدولة التي كان لها إنجازات ثقافيّة وعلميّة، فبنو عمّار لم يغفلوا الحياة الثقافية والعلميّة في طرابلس، وبما أنهم كانوا قضاة وعلماء قبل أن يصبحوا أمراء، فقد سخّروا كلّ مقدّراتهم وطاقاتهم من أجل بناء العلم والمدارس والمكتبات، وكان ابن البراج مثال الزعماء الذين يستقطبون العلماء ويكرّمونهم في مدينة طرابلس التي جعلوا منها محجّة علميّة.
وفي إطار اهتمامهم بالعلم والعلماء، قام أوّل ملوكهم أمين الدولة أبو طالب الحسن بن عمار، بتأسيس “دار العلم”، وجعل لطلاب العلم فيها رواتب، وفرّق على أهلها ذهباً، وجعل لها نظّاراً يتولّون أمورها، فسنّ تلك السنّة الحسنة الّتي سار عليها من جاء بعده من الأمراء.
وبالنّظر إلى كثرة حلقات التّدريس، ازدحمت المدينة بأشهر الأعلام، من أدباء وفقهاء وشعراء ولغويّين، وباتت مقصداً للناس على اختلاف أجناسهم ومذاهبهم، يزورها التجار والرحّالة وطلبة العلم والعلماء من كلّ البلاد، حيث ازدهرت أيضاً الترجمة، فتُرجمت الكثير من العلوم والآداب عن اللاتينية والفارسية وغيرها، إلى اللغة العربية، ومنها إلى اللغات الأخرى.
لا ننس ما أنشأه بنو عمار في طرابلس من”دار الحكمة”، التي نشرت العلوم والآداب، حتى إنها نافست “دار الحكمة” في مصر أيام الفاطميّين، وأصبحت من أعظم المراكز الشيعيّة في ذلك العصر.
في السياق ذاته، ومن أهمّ ما تميّزت به مدينة طرابلس دون غيرها من بلاد الشّام، قيام مكتبة كبرى فيها عُرفت بـ”دار العلم”، وكانت أكبر المكتبات في العالم، حيث ضمّت ملايين الكتب.
هذا باختصار نبذة عن الحياة العلميّة التي اتّسمت بها مدينة طرابلس؛ هذه البيئة الّتي احتضنت “ابن البراج”، وساهم في إغنائها.
بعد حياة مليئة بالعطاء العلمي المميّز، توفي في طرابلس في ليلة الجمعة في التاسع من شهر شعبان سنة 481 هجريّة، تاركاً وراءه سيرة غنيّة وحافلة بإشعاعاتها الحضاريّة والعلميّة والإنسانيّة.