رأي

الفساد الطائفي: تحليل أنثروبولوجي للهويات والاقتصاد غير الرسمي (سعيد عيسى)

 

بقلم د. سعيد عيسى – الحوارنيوز

في المجتمعات ذات التركيبة الطائفية المعقّدة، لا يمكن فهم الفساد كونه مجرّد انحرافٍ قانونيٍّ أو أخلاقيٍّ يمارسه أفراد منعزلون. بل يتجاوز ذلك ليصبح بنيةً اجتماعيةً وثقافيةً مُشَرْعَنَة تُنتجها الهوية الطائفية وتُعيد إنتاجها بشكل دائم.

لفهم هذه الظاهرة، يجب أن نبتعد عن المقاربات القانونية والسياسية التقليدية، ونعتمد على منهجٍ أنثروبولوجيٍّ(بشري) يتعمّق في فهم المعاني الثقافية، والآليات الاجتماعية، والمنطق غير المُعْلَن الذي يحكم سلوك الأفراد والجماعات. هذا التحليل يعيد تعريف الفساد من كونه “مشكلة” في النظام، إلى كونه جزءًا أساسيًا من النظام نفسه، يعكس العقد الاجتماعيّ غير المكتوب الذي يربط الأفراد بهويّاتهم الجماعية وزعمائهم السياسيين.

الهوية الطائفية كنظامٍ للعيش: إعادة تعريف المواطنة

في هذه المجتمعات، لا تُعرّف الهوية بالانتماء للدولة أو المواطنة المدنية، بل تُعرّف بالانتماء للجماعة الطائفية. تتحوّل الطائفة من مجرّد انتماءٍ دينيٍّ إلى مؤسسةٍ اجتماعيةٍ تُنظّم الحياة اليومية للأفراد. إنّها توفِّر شبكةً من الأمان الاجتماعيّ، وتُحدِّد طرق الوصول إلى الموارد، وتُشكِّل إطارًا للتضامن الجماعيّ. في هذا السياق، تضعف علاقة المواطن بالدولة المركزية، وتصبح علاقة الفرد بالطائفة هي العلاقة الأساسية التي تُحدِّد مكانته وحقوقه.

ويُقدِّم الأفراد ولاءهم المطلق للطائفة وزعمائها، ليس فقط لأسبابٍ دينيةٍ أو أيديولوجية، بل لأنهم يدركون أنّ هذه الجماعة هي الضامن الفعليّ لوجودهم واستمراريتهم. هذا العقد الاجتماعيّ غير المعلن يُبرِّر الانخراط في ممارساتٍ تبدو فاسدةً من منظورٍ خارجيّ، لكنها تُعدُّ من منظورٍ داخليٍّ ضروريّة للبقاء. ففي بلد يعاني من نقصٍ في الخدمات الصّحيّة، قد يرى الفرد أنّ الحصول على سريرٍ في مستشفى حكومي عبر “واسطة” من زعيم طائفته ليس فساداً، بل هو فعلٌ لإنقاذ حياة، يُشَرْعِن العلاقة الزبائنية على حساب القانون.

الدولة كـ “غنائم” طائفية:

في الأنظمة الطائفية، تفقد الدولة جوهرها كمؤسّسة محايدة لخدمة جميع المواطنين على قدم المساواة. بدلاً من أن تكون كيانًا يُدارُ وفقًا للقانون والمصلحة العامة، تُصبح الدولة غنيمة تُقْتَسَم بين زعماء الطوائف السياسية. يُنْظَر إلى مؤسّساتها ووزاراتها ومواردها المالية على أنها ملكيّات خاصة تُورَّث وتُوزَّع بناءً على نظام المحاصصة الطائفية، وليس على أساس الكفاءة أو الاحتياج.

يتحوّل كلّ منصب، من الوزير وصولًا للموظف البسيط، إلى حصّة طائفية. تصبح الوزارات أدواتً في أيدي زعماء الطوائف. يستخدمونها لتوفير المنافع والخدمات لأتباعهم، مما يعزّز شرعيتهم ويقوّي قبضتهم على السلطة.  هذا المنطق يحوّل الدولة إلى ساحة صراعٍ مستمرٍّ بين الجماعات المتنافسة على الموارد، ويُفْقِدَها وظيفتها الأساسية كمصدرٍ للعدالة والمساواة.

تُصبِح الوظائف العامة مكافأةً تقدّم لمن يستحقها بناءً على ولائه الطائفيّ، لا كحقٍّ من حقوق المواطنة. هذا لا يُضْعِف فقط كفاءة مؤسّسات الدولة، بل يُرسِّخ أيضًا شعورًا عميقًا بالظلم لدى الأفراد الذين لا يمتلكون واسطةً طائفية. في النهاية، يُنْتِج هذا النّظام دورةٍ مفرغةٍ من الفساد والولاء الطائفيّ، حيث يرى الأفراد أن الطائفة هي الملاذ الوحيد للحصول على حقوقهم، مما يُعزِّز من دور الزعماء ويُضْعِف من سلطة الدولة.

الفساد كـ “اقتصادٍ رمزيٍّ” للمحسوبيّة

في الأنظمة الطائفية، يتحوّل الفساد إلى “اقتصادٍ رمزيٍّ للمحسوبيّة” حيث تتجاوز المعاملات قيمتها المالية لتشمل الولاء، المنافع، والخدمات المتبادلة. هذا الاقتصاد غير الرسميّ له قواعده الخاصة: فالموارد العامة تُسْتَخْدَم كعملةٍ لتعزيز العلاقات الشخصية، حيث تُوَزّع الوظائف والمشاريع ليس بناءً على الكفاءة بل على قوة العلاقات الطائفية، مما يحوّل المال العام إلى أداةٍ لتعزيز السلطة الشخصية للزعماء. كما يُعدّ الولاء السياسي للزعيم ثمنًا للحصول على خدمات أساسية كالصحة والتعليم، والتي لا تُعْتَبَر حقوقاً للمواطنة بل “مَكْرُماتٍ” تُقدَّم من قبل الزعيم، مما يُرسِّخ التبعية ويُضْعِف مفهوم الدولة كحَكَمٍ محايد. هذا العقد الاجتماعيّ غير المكتوب يُشَرْعِن الفساد كجزءٍ طبيعيٍّ من الحياة السياسية، ويشجّع الأفراد على المشاركة فيه كوسيلةٍ للنَّجاة في نظام يرونه غير عادل.

الواسطة كشكلٍ من أشكال العدالة

تُعدّ “الواسطة الطائفية” مثالاً بارزًا على هذا الاقتصاد. لا يرى الأفراد فيها سلوكًا فاسدًا، بل أداةً حيويةً للتنقّل داخل نظام مُعطّل. عندما يحصل فرد على وظيفة أو خدمة عبر واسطة من طائفته، فإنه لا يراها فسادًا، بل يراها استعادةً لحقّه داخل نظام يرى أنه يُقدّم الامتيازات للآخرين بناءً على انتمائهم. يرى الخدمة كـ “هدية”. عندما يُقدّم الزعيم الطائفيّ خدمةً لأحد أتباعه، مثل الحصول على تصريحٍ أو تخفيض رسوم، فإنّه لا يراه كواجب مدنيّ، بل كمَكْرُمة شخصيّة تُعزّز علاقتهما. هذا السلوك يُحوّل علاقة المواطن بالدولة إلى علاقة زبائنية مبنيّة على التّبعيّة، ويُفْقِد مؤسسات الدولة استقلاليتها، ويُضْعِف مفهوم المواطنة كعقدٍ مدنيٍّ متساوٍ بين الجميع.

هذا الاقتصاد الرمزيّ للمحسوبية يُنْتِج ما يُسمّى بـ “الفساد الشعبي”، حيث يشارك فيه الأفراد بشكلٍ يوميّ، ليس بالضرورة لكسب المال، بل للحصول على حقوقهم الأساسية التي فشلت الدولة في توفيرها. وهذا يُعمِّق من الأزمة، لأن الفساد لا يقتصر على النخبة السياسية فقط، بل يتغلغل في مستويات المجتمع كافة.

الفساد كـ”استراتيجية للبقاء”

يُمكن أن يُنْظَر إلى الفساد في هذه السّياقات كـ “استراتيجيةٍ للبقاء”، حيث يُعاد تعريفه ليخدم مصالح الجماعة. يرى الأفراد أنّ فساد زعيم طائفتهم هو ضرورةٌ لحماية وجودهم في مواجهة “الطوائف الأخرى” التي يُنْظَر إليهم كخصوم سياسيين واجتماعيين. هذا المنطق يُفْشِل أيّ محاولة للإصلاح من داخل النظام، لأنّه يُقْنِع الأفراد بأن محاسبة زعيمٍ فاسدٍ هي في الواقع محاولة لإضعاف الطائفة بأكملها. وعندما تُرفع قضايا فساد ضدّ مسؤولٍ ينتمي لطائفة معيّنة، يتمّ تصوير ذلك على أنه “حملةٌ” على الطائفة ككلّ. هذا الخطاب يعزّز الانقسام، ويُفْشِل جهود الإصلاح، ويحافظ على الوضع الراهن.

ويساهم النظام الطائفيّ في تعويم المسؤولية، حيث لا يُحاسَب أحدٌ بشكلٍ فرديّ. يتمّ توزيع الفشل على الطوائف، ويصبح الفساد فشلاً جماعياً لا يمكن نسبه إلى فردٍ واحد. هذا يخفّف من الشعور بالذنب، ويرسّخ فكرة أنّ الفساد هو “جزء من اللعبة” السياسية، وليس جريمةً يعاقب عليها القانون.

نقد مفهوم الشفافية الليبرالي

تُعْتَبَر أدوات الشفافية الحديثة، مثل الموازنات المفتوحة وتقارير الرقابة، حلولاً ليبرالية تفترض وجود عقدٍ اجتماعيٍّ قائمٍ على المواطنة الفردية والدولة المستقلة. لكن هذه الأدوات تفشل في اختراق المنطق الثقافيّ والاجتماعيّ للطائفية. في النّظام الطائفيّ، تصبح الشفافية مجرّد واجهةٍ عقلانيةٍ تُخْفي تحتها بنيةً تقليديةً من المحسوبية والزبائنية. يتمّ نشر الأرقام والمعلومات، ولكن لا تؤدّي إلى تغييرٍ حقيقيّ، لأن آليات توزيع الموارد تظلّ محكومةٍ بالزعامات الطائفية، وليس عبر مؤسّسات الدولة المستقلة.

وقد تتحوّل الشفافية إلى أداةٍ لزيادة الصّراع الطائفيّ. وذلك عندما تُكْشَف أرقام الفساد، فإن ذلك قد يُسْتَخْدَم من قبل طائفةٍ ضد أخرى كـ “دليلٍ” على فسادها، ممّا يعزّز الكراهية والانقسام، بدلاً من تعزيز المساءلة المشتركة.

في الختام، تُظْهِر الأنثروبولوجيا أن مكافحة الفساد في الأنظمة الطائفية تتطلّب أكثر من مجرد إصلاحاتٍ قانونية. يجب أن تركَّز الجهود على تفكيك البنى الثقافية والاجتماعية التي تُشَرْعِن الفساد وتحوّله إلى نظامٍ للعيش. وهذا يتطلب:

  1. أن نفهم لماذا يرى الأفراد أنّ الفساد هو سلوكٌ مقبولٌ أو ضروريّ، من خلال إجراء أبحاثٍ ميدانيةٍ توثّق تجاربهم اليومية.
  2. العمل على إعادة بناء العلاقة بين الفرد والدولة، بحيث تصبح المواطنة هي الأساس، وليس الانتماء الطائفيّ. هذا يتطلب جهودًا تعليميةً وثقافيةّ طويلة الأمد.
  3. إعادة تعريف المسؤولية بحيث تُصْبِح فردية ومؤسّساتية، لا موزعةً على الطوائف. وهذا يتطلب إصلاحات في النّظام القضائيّ والإداريّ وتعزيز مبدأ المساءلة الفردية.

باختصار، الفساد في المجتمعات الطائفية ليس مشكلةٍ تُحَلّ بالقوانين فقط، بل هو مشروعٌ ثقافيٌّ وسياسيٌّ يتطلّب تغييرًا جذريًا في كيفية إدراك الأفراد لأنفسهم، ولطائفتهم، ولدولتهم. هذا التغيير لا يمكن أن يأتي من الخارج، بل يجب أن ينبع من حركةٍ شعبيةٍ تُدْرِك أنّ بناء دولةٍ مستقرةٍ وعادلةٍ يتطلّب التخلّي عن منطق المحاصصة والزبائنية، والقبول بمبدأ المواطنة الكاملة.

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى