الحوار نيوز
قصيدة “الفدائي وأمّه” لسليم حيدر نسج عليها الدكتور مكرم خوري-مخول، مدير بيت فلسطين في كايمبريدج، سيرة أبطال فلسطين، وجدان الإنسانية المظلومة، تاريخًا لنضال الأحرار،وذلك في مقالة كتبها اليوم في صحيفة “رأي اليوم” وهذا نصها:
د. مكرم خُوري مَخُّولْ* – صحيفة رأي اليوم
سترون لاحقا أن عنوان هذه المقالة ليس من بنات أفكاري رغم أنني طرقت الموضوع من زوايا متعددة مرارا في العام الأخير. فمع ازدياد جرائم الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين، شهدت مواقع جغرافية عديدة في فلسطين في العام الأخير على وجه التحديد الكثير من العمليات الفدائية والتي تم تصوير مقتطفات عديدة منها تراوحت ما بين فيديو كامل ومقتطفات فيديو من مسرح العملية الفدائية الفلسطينية.
الشريحة التي نفذت هذه العمليات تأتي عموما من جيل الشباب وأحيانا الأطفال الفلسطينيين. الفئة المجتمعية الثانية المهمة والتي برز وجودها في أعقاب هذه العمليات، وذلك بسبب فقدان فلذات اكبادهن، هن الأمهات الفلسطينيات حيث تم تخصيص العديد من الفيديوهات تظهر فيها الأمهات في ظروف ما بعد فقدان الابن.
الخطاب الإعلامي السياسي للاحتلال الإسرائيلي يصف دوما العمليات الفدائية، مهما كان موقعها الجغرافي (غرب فلسطين المحتل عام ١٩٤٨ أو شرق فلسطين المحتل عام ١٩٦٧) على انها عمليات “إرهابية” رغم أن “القانون الدولي” لا يعترف باحتلال الحركة الصهيونية لشرق فلسطين والذي يجيز أيضا للشعب الذي يرزح تحت الاحتلال اختيار أنواع المقاومة التي يراها مناسبة سلمية كانت أم غير سلمية.
في أعقاب العملية الفدائية التي قام بها الشاب الفلسطيني خيري علقم في القدس المحتلة، وذلك في إطار الطعن بشرعية العمل الفدائي ووصمه بالإرهاب، اجتهد “الفهم” الإسرائيلي (والذي هو عبارة عن استراتيجية جاهز ومغلفة) بتفسير عملية خيري علقم التي أدت الى مقتل عشرة أشخاص، نحو اتهام “التحريض الإعلامي” الذي أدى بالشاب علقم القيام بعمليته.
تفكيكا لغويا لخطاب الاحتلال يشير الى أن الاحتلال أراد فعل كل شيء ما عدا أن ينظر الى وجهه في المرآة، او أن يقرأ التقارير وبما فيها إحصائيات حول جرائمه المتنوعة ضد الشعب الفلسطيني. بالمجمل:
١. الاحتلال يرفض استيعاب معنى جرائمه وأنه يعدم ويقمع بشكل جسدي مباشر وفي كل مكان يحلو له وبذلك يكون قد رفض أصلا القرارات الأممية التي تؤكد أنه احتلال (على الأقل في شرق فلسطين)
٢. أن لهذه الجرائم الصهيونية ضد الفلسطينيين ردود فعل طبيعية لأنها تمس الروح الفلسطينية والكيان الجسدي وأن هذا الرد (أي العمليات الفدائية الفلسطينية) مغاير لمواقف “ديوان رئاسة” محمود عباس ومجموعة “التنسيق الأمني” لأن الشعب “خرج” من “المقاطعة” في رام الله عاملا بمقولة السيد المسيح:” وَكُلُّ مَنْ لاَ يَقْبَلُكُمْ وَلاَ يَسْمَعُ لَكُمْ، فَاخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ وَانْفُضُوا التُّرَابَ الَّذِي تَحْتَ أَرْجُلِكُمْ شَهَادَةً عَلَيْهِمْ”. (إنجيل: مار مُرقُصْ: ٦:١١).
٣. المُرَكِبَات الثلاثة: أن نقل الفيديوهات للحيز العام ما هي الا عملية وساطة Mediation ما بين العملية الفدائية وما بين الشعب والمشاهدين.
٤. أن العديد من الناس ذهلوا من عملية خيري علقم (وقبله من العديد من العمليات الفدائية التي لم تأبه جبروت عتاد الاحتلال وصارعوه حتى الموت ولآخر رصاصة وجها لوجه وبعيون مفتوحة) وذلك نظرا للنتيجة التي حققتها مهارات خيري علقم باستعمال المسدس. هذ الذهول يحصل أولا: نتيجة الاكتشاف أن عملية كي الوعي وقبول التطبيع لم تنجح؛ وثانيا أن هناك أجيال جديدة بحاجة لتعلم تاريخ النضال الفدائي الفلسطيني لأنها لا تعرف تاريخيته وثالثا لأنه ورغم طول الصراع (١٠٧ سنة منذ رسالة “بلفور”) لا زال الشعب الفلسطيني يقاوم رغم آلاف المؤامرات التي حيكت وتحاك ضده من كل حدب وصوب (الصهاينة والاستعمار الجديد وأدواته الخيانية من العربان. ما تساعد فيه وسائل التواصل الاجتماعي (أو وسائط النقل الإعلامي) هو نقل السردية الفلسطينية وتعميمها مجددا. إضافة إلى ذلك فلا يمكن أن يتم فهم ظاهرة الفدائيين من الجيلين الفلسطينيين الذين ولدا بعد الانتفاضة الفلسطينية الأولى التي اندلعت في ديسمبر ١٩٨٧) والانتفاضة الثانية (التي اندلعت في أيلول ٢٠٠٠) الا عبر تسلسل تاريخي متواصل زمنيا ومتصل اجتماعيا ونفسيا وسياسيا واقتصاديا. ولربما كلمات مواطن فلسطيني ظهر في أحد الفيديوهات القصيرة بعد أن تم سؤاله عن عملية الطفل ابن الثالثة عشرة من حي سلوان محمود عليوات إذ قال: “الطبيعي لولد عمره ١٣ أن يكون بطلا…هذا الولد مش طفل… هذا الولد بطل…ولد في النار وليس في الجنة…هذا الولد رضع المقاومة رضاعة من يللي بشوفه”.
إن تصريح طفل آخر بنفس عمر عليوات لمراسل قناة إسرائيلية أنه “يعتبره بطل” هو استفتاء عشوائي لما يشعره الأطفال الفلسطينيين الذين ليسوا بحاجة لمشاهدة القنوات التلفزيونية لكي يتأثروا مما تبثه وإنما المواجهة اليومية العنيفة التي يفرضها عسكر الاحتلال هي التي توفر التجربة الاجتماعية وبلورة النفسية وليس وسيلة الإعلام (كوكالة تنشئة) في هذه الحالة.
نقول ذلك وفي ذهننا عملية نشؤ العمل الفدائي الفلسطيني الذي صحيح أن تواجده كان ضئيلا في فترة الانتداب البريطاني الا أنه وفي أعقاب النكبة ورغم أن صدمة النكبة أدت الى أن تستغرق عملية المقاومة الفدائية المسلحة الا أنها انطلقت بعد نحو عقد من فضاء ملؤه خسارة الوطن وفقدان المجتمع ولوعة فراق الحارة وكوابيس فقدان بيت العائلة والاشتياق لبيارات البرتقال ورائحة الليمون وزيت كروم الزيتون وشواطئ البحر وسفوح الجبال والحرمان من العودة. ولو لم يكن العمل الفدائي الفلسطيني ومنذ فترة ما بعد نكسة فلسطين وخسارة شرقها رد فعل طبيعي (بغض النظر عن تخطيطه الفصائلي الفلسطيني) لما كان استمر عبر العقود.
فهل كان د. وديع حداد بحاجة لفيسبوك وإنستغرام لكي يخطط ما خططه في بيروت ويبتكر ما ابتكره من عمل فدائي؟
فما أشبه اليوم بالغد: ألم تُذهل (على سبيل المثال وليس الحصر) عمليات ليلى خالد وتيريزا هلسة ودلال المغربي وغيرهن من الفدائيات الفلسطينيات العالم بجرأة القرار وصلابة التنفيذ وبدون أن تكون وسائل تواصل اجتماعي؟
إن تحول الإنسان الفلسطيني على وجه التحديد الى مشروع فدائي ينبت اجتماعيا ونفسيا من الغبن والظلم والحرمان من الاستقلال السياسي وانعدام الحرية القومية والعدالة الإنسانية وممارسة القمع وفرض حواجز بينه وبين وطنه وحصار الجسدي الذي يتحول الى شعلة تختار عملا تضحي فيه (أو على الأقل تعرف أنها ستضحي بجسدها لأجل قناعتها أو لكي تضحي للآخرين) قبل أن تتحول أحيانا على حالة انتقام نفسي.
وبعد ذلك تبدأ تجربة الفدائي كفكرة وحلم وتتطور لتصبح قيمة وقناعة راسخة واشتعال ينضح بأهمية التضحية. ولم تؤدي كل عملية فدائية الى قتل يهود أو إسرائيليين. إلا ان مجرد القيام بالعملية الفدائية كان إعرابا لموقف واستثمارا بمشروع وتمريرا لقيمة وطنية وتغذية لروح الاستمرارية في النضال من أجل التحرير والعودة. وما من شعر كتبه عربي غير فلسطيني عَبَّر عن تجربة الفدائي وظاهرة الفدائي المميزة وحواره مع أمهِ أكثر من قصيدة الأديب والشاعر والقاضي والسياسي (ديبلوماسيا ووزيرا) اللبناني الراحل الدكتور سليم حيدر في قصيدة بعنوان ” الفدائي وأُمه”. وفي هذا الإطار نشير الى العدد الكبير من الصور والرسومات بلغات متعددة تم تداولها عبر العالم وهي تُشَبِّه وتقارن ما بين السيدة مريم العذراء والسيد المسيح في حضنها مقتولا بعد تعذيبه وصلبه في القدس في مشهد “الفدائي وأمُّه” وما وبين أم الفدائي الفلسطيني التي تحضن ابنها ومشيرة الى هذا التواصل التاريخي للعذاب الفلسطيني في سبيل الحق وضد الطغاة. وقد شدد الدكتور سليم حيدر (الذي كانت لديه ثقافة موسوعية متقاطعة الحقول العلمية) في قصيدته على الموضوع التعبوي المتعلق بـ “أصداء النداء” في حوار ما بين الفدائي ووالدته تعبر فيها الوالدة عن أحاسيسها نحو ولدها وكيف أنها لا تريد أن تخسره وكيف أن الولد يصمم على ضرورة الفداء بجدلية تجمع ما بين الصدمة وألمها والذاكرة ووجعها وكيف أن الإثنتين غَذَّيَتا الإصرارا على نسخ وصقل وتدوير وتمرير معانة الفلسطيني في جبلة جعلت منه فدائي.
وقد جاء في قصيدة سليم حيدر والتي كتبها ونشرها عام ١٩٧٠ ما يلي:
في ليلةٍ صفوٍ رضاءِ ظـلماء تحلم بالضـياءِ
سمحاء، من تلك التي شهدت مخاض الأنـبياء
نـهـض الـفـتـى و بـمـسمـعـيه تـعـجّ أصـداء النـداء
يتـنـطَّـق العـزم المـضـاء و يـشـتـكـي وخـز البِـطاء
وتمـلـمـلـت – وكـأنـمـا حـدسـت – مسـهَّـدة الـنسـاء
لـمـحـت فـهـبَّـت فـاسـتـوت فـهـفت مجـنَّةَ الخِـطـاء
فـزعًا الـيه كـأنـها إحـدى الـمـنفَّـرة اللّـُـباء
غضـبى، يهـدّد شبـلها فـي طـيشه خطـر فجائي !
– يا ابني إلى أين المـضيُّ؟ أجـاب : يدعـوني ولائـي
قالـت : وأمـك؟ – حسـب أمي فـي أسـاها مـن عزاء
انـي لأرض الأمـهـات أُعِــدُّ أســبـاب افــتــدائـي
أمُّ المسـيـح وأم أحـمـد … والـلـواتـي فـي الـوطـاء
تحـت الخـيام ينـمن فـي مـوج الصقـيع بلا غطاءِ
أطـفـالهـن عـلى مسيـل الـبـؤس تـطـفـو كـالـغُـثـاء …
ماذا أقـول عن المصاب، ولسـت فـي باب الـرثاء؟..
– يا ابني فـلسطين انـتهت حكـم القضاء بلا مراء
قـدرٌ لـنا، سـبحـانه فـي ملـكه راعـي الرُّعاء !
وقـعـت على قـلـب الـفـتى الكــلمـاتُ كالجـمـر الـذَّكـاء
تــصـلي شـغـاف الـكـبـرياء وتصـطـلـي بـالإكـتـواء
فـتـوهـجـت عـيـنـاه إشـعـاعًـا يـشـفُّ عـن الـتـظـاء
و تـطـايـرت مـن اصـغـريـه شـكـاتـه حـمـم اصـطـلاء :
– أمي، سالـتـك بـالـتـقى لا تحـرفـي خـطّ السـواء
كـفـر بـذات الله فـلسـفـة الـمـذلَّـةِ و الـغـبـاء
قَـدَرٌّ ؟.. وكـيـف تـقـدَّر الأقـدار؟ تُـلـقـى فـي الـهـواء
عـمـياء فـي ظُـلَـم الجـزاف الـزاحـفـات إلـى اعـتماء …
مـن يـقـدر الـظـلـم الـمـؤبَّـد قسـمـةً لـلأبـريـاء ؟..
عشـرون عـامًا قـد مضت فـي كـل عـامٍ ألف داء
عشـرون، يـا أمي ! نـما بـؤسـي، نـمـا هـول الـنـماء
والـداء يـأكـل فـي صـمـيـمـي كـل آمـال الشـفـاء !..
أَوَتـذكـريـن صـبـاح ذاك الـيـوم ؟.. أم غِـيَـرَ الـمسـاء
عشـريـن عـامًـا فـي الـضـراعـة فـالـقـنـوط فـالانـطـواء
قـد عـطَّـلـت ذكـراه، عـابـثـةً بـطـيـات الـكِـفـاء ؟..
إنـي أعـيـش صبـاح ذاك الـيـوم، لا يجـدي اتـقـائي
أبدًا يجـيش بخـاطـري يـزكـو معي، يرعى زكائي
تـرتـادنـي احـداثـه الـحـمـراء ، تـدمـى فـي دمـائـي
عـلـنًـا تـقـمَّـصـنـي وسـلسـل روعـه بـيَ فـي الـخـفـاء
أصـبـحـتُـه، أمسـيـتُـه أنَّـى سـعـيت سـعـى ورائي
انـي أعـيـش صـبـاح ذاك الـيـوم فـي مـثـل انـتـشـاء
لـم أنـس يـافـا : بـيـتـنـا ، بـسـتـانـه ، بـئـري ، دلائـي
وأتـى الـيـهـود، وخـرَّ مـذبـوحًـا أبـي، كـابـي الـذَّمـاء
و جـررتـنـي طـفـلًا يـجـرجـر ذعـره مـلء الـفـضـاء
حـتـى اذا بـعـدت خـطـاكِ و زال شـرّ الأشـقـيـاء
هـلَّـلـتِ تـبـتـهـلـيـن رافـعـةً يـديـك إلـى الـعـلاء …
لا، لن أسوق الذكريات ! قضيت عمري في انطوائي
الطـفل شبَّ عـلى الدعـاءِ وشـاب مـن عـقم الدعاء !
– يا ابـني كـفـرتَ ! – كـفـرتُ يـا أمـي بـكـفـر الأغـبياء
بـالـمسـلـم الـمسـتسـلـم الـمعــتـلِّ بـالـقـدر الـبـدائـي
بـالـقـاذفـيـن الله بـالـسـوءات ، أقـدار افـتـراء
بـالـصائـمـيـن عـن الـجـهـاد، الـقـانـتـيـن عـلى ارتـمـاء
بـالـجاعـلـيـن الـديـن فـي الـدنـيـا تـعـاويـذ ارتـضـاء
فـلـدعـوة الإسـلام أجـلـى مـن عـمـوه الأدعـيـاء !
قـدر ؟.. وأبـقى هكـذا فـي الناس مجـلبة ازدراء
أجـتـرُّ يـأسـي فـي قـذارة ذِلّـتـي كـالـخـنـفـسـاء ؟..
لا، لا، مـعـاذ الله ! لـن يـحـيـا السـخـيّ بـلا سـخـاء !
قـدري ، أنـا خـطّـطـتـه و حـتـمـتـه ألـفي ويأئي
بـعـد الهـزيـمة لـجَّ بـي الـتسآل : مـا مـعـنى الـقـضـاء ؟
مـا الله ؟ مـا الإنسـان، مـا الـبـرق المـلـعـلـع فـي الـعـماء
مـا الـعـقـل يـبـتـكـر الـجـديـد مـن الحـديـد، مـن الـهـبـاء
مـا الـداء يُـعـضِـل ثـم يـنـصـل تـحـت تـأثـيـر الـدواء
مـا الـيـأس فـي الـمـيـزان ، والـثِـقـل الـمـرجّـح لـلـرجـاء
مـا الإنـهـيـار ، وكـل فـعـل ارادةٍ أُسُّ الـبـنـاء ؟..
وجـثـوت مـثـل المـصطـفـى دنـف العـقيـدة في حراء
وجِـلًا أفـتـش عـن غـدي بـعـد الـهـزيـمـة، عـن حـيـائـي
عـمـا أقـول لإخـوتـي المسـتـشـرديـن بـلا ثـواء
الـنـافـريـن عـلـى الـقـنـابـل فـي السـفـوح و فـي الـجِـواء
الـنـاعـلـيـن الـرمـل فـي الـتـيـه الـحـراق بـلا حـذاء
الـلاجـئـيـن تُـذِلُّـهـم أخـبـاؤهـم تـحـت الـخـبـاء
الـنـاقـلـيـن عـيـالـهـم أبـدًا عـلـى مـدّ الـعـداء
الـجـاهـلـيـن مـصـيـرهـم الصـائـريـن إلـى فـنـاء …
و رأيـت أشـلاء الـذيـن اسـتـشـهـدوا يـوم الـتـنـائـي
تـسـري كـمـا الأشـبـاح فـي خـلـدي مـلـطَّـخـة الـكـسـاء
أبـدًا تـنـاديـنـي و تـزعـق فـي ضـمـيـري كـالـمـواء
أبـدًا تـشـيـر إلـيَّ مـحـتـقـرًا كـأبـنـاء الـزنـاءِ
أبـدًا تـحـرّك فـي كـوامـن مـحـنـتـي مـعـنـى انـزوائـي
أبـدًا تـحـاسـبـنـي : أنـا المسـؤول … وانـبـثـق اهـتـدائي !
خـفـقـت بـنـفـسـي أمـتـي الـثـكـلـى كـرعـشـة كـهـربـاء
فـشـعـرت انـي قـد عُـتِـقـت ، ورحـت أنـصل مـن وعائي
لـقـيـت ماضـيَّ الـثـقـيـل عـلـى الـحـضـيـض بـلا احـتـفاء
فـنضى الـونى عـن كاهلي وانزاح عن صدري عنائي
و تـنـفَّـسـت رئـتـاي مـلء مـطـامـحـي و بـدا رُوائـي
و تـقـلـصـت عـضـلات وجـهـي فـي اعـتـزام الأقـويـاء
وشـعـرت ان أظـافـري مـلـكـي ، و أنـضـائـي غـشـائـي !
مـزَّقـت أسـمـالي : خـرافـاتـي و حـرصـي و اسـتـوائـي
مـزَّقـت خـوف الـعـري، خـوف الـجـوع، خـوف الإمّـحـاء
مـزَّقـت أطـمـار الـتـخـاذل و الـتـواكـل و الـريـاء
مـزَّقـت جـلـبـاب الـتـأنـي و الـتـمـنـي و الـدهـاء
مـزَّقـت آلاف الـسـتـور تـلـفّـنـي كـالـمـومـيـاء
وبـرزت تـحـت الـشـمـس عـريـانًـا طـلـيقًـا فـي الـعراء
ونـسـجـت مـن آمـال آلامـي ، و مـن حـقـي ، ردائـي !
– يا ابني !.. – كـفى يـا أمِّ، لا تُـلـقـي الـغـبار علـى البهاء
لا تسـألـيـنـي رجـعـةً قُـدُمًـا أسـيـر بـلا الـتـواء
أسـعـى إلـى قـدري كـومـض الـبـرق فـي حـلـك الـشـتـاء
أنـسـاب هـفـهـافًـا إلـيـه كـرفـة الـحـلـم الـبـراء
والـشـوق يُـرقِـص فـي دمـي لـحـنًـا كـأصـداء الـحـداء
مـتـسـلّـحًـا عـزمـي اقـتـحـام الـمـوت ، أو يُـبـلـي بـلائـي
كـوفـيَّـتـي الـرقـشـاء تـخـفـق فـي الـعـواصـف كـالـلـواء !..
تـبـكـيـن يـا أمـاه ؟ دمـعـك طـعـنـة فـي كـبـريـائـي
أنـا لـم أعـد ذاك الـمـحـنَّـط بـالـدلال و بـالـرخـاء
أيـظـلُّ بـعـد الـنـكـبـة الـكـبـرى كـمـا كـان احـتـمـائـي
و مـن الـخــلـيـج إلـى الـمـحـيـط أجـرُّ ذُلّـي و انـكـفـائـي
لا ، لـن أمـوت اذا قـتـلـت فـإن فـي مـوتـي بـقـائـي !
تـبـكـيـن ، تـنـتـحـبـيـن !.. قـلـبـي يـدلـهـمُّ مـن الـبـكـاء
قـدري يـنـاديـنـي، وتـبـسـم لـي هـنـاك صـوى الـلـقـاء
أنـا لـم أعـد مـلـكًـا لـنـفـسـي ، والـشـنـار طـمـا إزائـي
أنـا مـلـك أرضـي ، وهي عطشى ، ريُّها بدمي وفـائي
أنـا صـنـع بـعـد الـنـكـبـة الـنـكـبـاء ، ثـأر الإعـتـداء
أنـا لـلـتـأهّـب و الـتـحـسّـب و الـتـوثّـب و الـضراء
أنـا لـلـتـحـدّي و الـتـصـدّي و الـتـعـدّي و الـمـضـاء
أنـا لـلوجـيـعـة و الـنـجـيـعـة و الـفـجـيـعـة وا لـعـفـاء
أنـا زارع رعـب الـدمـار بـمـن يـدمّـر حـوض مـائـي !
تـبـكـيـن ؟.. دمـعـك زفـرة سـوداء فـي نَـفَـس الإبـاء
كـأداء فـي الـنَـفَـس الـطـلـيـق ، و أنـت سـيـدة الإمـاء
كـيـف الـسـبـيـل الـيـكِ، يـا أمّـاه ؟ يـعـوزنـي ادائـي
ما أنـت بـعـد الـيـوم أمـي، محـض أمـي، فـي اكـتفاء
مـا أنـت لـي وحـدي، ولا وحـدي ولـيـدك فـي انتمائي
أنـا فـي دمـي آلاف اخـوانـي ، رفـاق الاجـتـراء
يـتـشـابـهـون بـعـزمـهـم ومـضـائـهـم كـنـقـاط مـاء
يـتـسـابـقـون إلـى اقـتـحـام الأرض مـن بـاب السـمـاء
يـتـزاحـمـون عـلـى حـيـاض ا لـمـوت رُوَّاد ارتـواء
يـتـوالـدون : دم الـشـهـيـد مـلـقّـح خـصـب الـعـطـاء
ولأنـت أمٌّ لـلـجـمـيـع : أمـيـرة الـعـمـل الـفدائـي
و مـشى إلـى بـاب الـخـبـاء يـفـك مـن عـقـد الـرشـاء
فـمـشـت إلـيـه كـريـمـة الـقـسـمـات ، فـي مثـل ازدهاء
يُـضـفـي عـلـى الـوجـه الـجـمـيـل سـنى تـقـاة الأصفـياء
وتـسـلـسـلـت كـلـمـاتـهـا طـربًـا كـألـحـان الـغـنـاء
– يـا ابـني فهـمتُ – سكـبـتَ شـيئًا من نقائك في نقائي
لـن يـشـتـفي مـنا غـلـيـل فـي مـراوغـة الـظـمـاء
شـرفًـا قـبـلـت بـنـوَّة الآلاف ، ركـبـان الـفـتـاء
وفـتـحـت قـلـبـي لـلـجـمـيـع هُـمُ وأنـت عـلى اخاء
تـصـلَـوْن اسرائيل نـار قـلـوبـكـم حـتـى الـجـلاء !
لـمـعـت دمـوع الـنـصـر فـي عـيـنـيـه كـالـطـلِّ الـصـفـاء
فـهـفـا و عـانـقـهـا و فـرَّ كـأنـه رشـأ الـظـبـاء
و طـوى الـدجـى وثـبـاتـه إلا صـداهـا فـي الـخـواء
و تـخـلَّـجـت فـي نـفـسـهـا غـمـرات كـربٍ وانـجـلاء
مـتـنـاوباتٍ تـضـمـحـلُّ و تـسـتـحـيـل رؤى هـنـاء
و تـألـقـت فـي الـبـاب تـعـتـصـِر الـدجـى ، والـقـلـب نـاء
يـهـفـو وراء وحـيـدهـا الـهـافـي … و يـلـهـج بـالـرضـاء
قصيدة سليم حيدر تحتوي على عشرات المواضيع والتي تشكل قطف عنب مركب بجمالية لغوية تعبر عن تعقيدة الحالة الفلسطينية والميزات الثقافية للروح الفدائية الملتهبة عبر العقود. لقد تبلور العمل الفدائي (وهو يشمل أولئك الذين تم قتلهم دون قيامهم بعملية عنفية ) بمعناه الموسع الذي يتبنى أيضاً “الموت النبيل” و “الفخر بالتضحية” وفي مركزة قيمة سامية تعمل على القيامة المجددة للشعب الفلسطيني مع ربطه (العمل الفدائي) روحيا ومكانيا أيضاً بتجربة السيد المسيح في طريق الآلام وحتى صلبه وقيامته في القدس ليصبح هذا العمل الفدائي في فلسطين القرن الـ ٢١ و ٢٢ عملا (القتل بدون عنف أو مع عنف) مصنعاً يُنتج سردية متجددة وخطابا يروى للمشاهدين والمستمعين حكاية عمل يقترن بشجاعة لشفاء الغليل الفلسطيني الجمعي. فهذا العمل يثير إعجاب البعض ويصعق البعض ويلفت نظر الكثيرين فيدغدغ التفكير بالمقارنة بينه وبين العمل (هل كنت سأفعلها؟ كيف لو كان ابني؟) وجدوى العمل الفدائي ووظيفته التربوية في صيرورة المقاومة الفلسطينية.
إن ما يجري في فلسطين اليوم يجلب تاريخ النضال الفدائي الفلسطيني بشكله الوارد في قصيدة سليم حيدر الى الحياة مجددا التضحية أو حتى مجرد المحاولة بالتضحية بالذات (مع قتلى من الطرف الآخر أو بدون – مع استشهاد الفدائي أو ببقائه على قيد الحياة) الى أسطورة تحصل أمام أعيننا في الحاضر المستمر يشاهدها العالم عبر فيديوهات ويندهش منه مُضطرباَ أو خاشعاً ولكنها حقيقة على الأرض المقدسة المصبوغة باللون الأحمر.
*أكاديمي فلسطيني – بريطاني