الفجوة الحضارية في الوعي العربي: دور الانظمة الاستبدادية (2)
كتبت آيات ونوس -الحوارنيوز
ان إغلاق الفجوة الوجودية بيد الانظمة الاستبدادية ( سياسية – دينية- اجتماعية- ايديولوجية)على مرحلة تاريخية من تطورالتفكير الانساني بقضبان الاستبداد وسدل ستائر الظلام عليه لمنع النور ومتابعة طريق تطوره التاريخي ، فتح بالمقابل فجوات تشمل كل جوانب ونشاطات الانسان المادية والمعرفية والفكرية والروحية .
فمنذ نشوء مايعرف بالخلافة العربية الاسلامية، قامت على الصراعات والحروب من اجل الاستئثار بالحكم والثروة التي غنمتها في الحروب ، تحت راية نشر العقيدة ،ولم تكترث إلا ببناء القصور والقلاع والمساجد وفتح الطرق التجارية لسحب رساميل الثروة وتمركزها تبعا لحاجات الترف والحروب باستثناء فرص حضارية فتحها حكم بعض الخلفاء الذين اهتموا بالعلم والمعرفة والانفتاح على الارث الحضاري للشعوب الاخرى من ثقافة وعلوم واداب واساليب ادارة الحكم لبناء دولة قوية إلا ان هذه الفرص المضيئة التي نشرت العلم والمعرفة والتفكير العقلي وأفرزت ابداعات علمية وفكرية وفلسفية لبناء انسان حضاري ، تم اغتيالها تحت سطوة الصراعات السياسة، و سيطرة ثقافة دين النقل على حساب قلم العقل والفكر.
وتشكلت انظمة اقتصادية اجتماعية سياسية تجمع مقومات المجتمع القبلي والرقي العبودي ونظام إقطاع الدولة الذي قسم المناطق الشاسعة الواقعة تحت سيطرتها الى امارات اقطاعية يحكمها امراء مقربون من السلطة السياسية والدينية ، او مكافأة لقادة الجيوش ، بينما بقي السواد الاعظم من العامة يرزحون تحت وطأة الفقر والتهميش وعلاقات العبودية بكل أشكالها
وابعادها عن ساحة المعرفة بالخوف والخنوع وربط عقولها بشريعة الترهيب الوجودي والروحي والفكري وخنق كل محاولة للثورة على الواقع، وتعميم ثقافة الوهم والخرافة والقداسة التي غرقت بها الشعوب ونامت في كهف وجودها،لتستفيق من غفوتها وتخرج من عباءة الخلافة الاسلامية العثمانية،على عالم جديد، تخطى امكنةوجودها ووجود فكرها الذي غفت عليه منذ زمن طويل، وحضارة غريبة عنها، وشعرت بثقل خطواتها المكبلة بالعبودية ، لمتابعة سيرها واللحاق بركب قطار التحضر، وهي في لحظة ذهولها ، وحلمها بالحرية من سجون العتمة والقهر والظلم،
انقض عليها لصوص الحضارة، ووحش الرأسمال العالمي، ليعيدها باسم نشر التحضر وحقوق الديموقراطية الى سجون جديدة من العبودية الاستعمارية، مقسمة أراضيه الى مستعمرات للقوى الاستعمارية النافذة، لحلب ماتبقى من خيرها وتصيدره الى بلدانها ، وتشكيل بضاعة حكم جديدة، من منتجات ابنائها ، الذين لم يسمح لهم يحكموا بإرث مستعمرهم الديموقراطي، بل بإرث ماضيهم الاستبدادي، ليسهل قيادتهم وتبعيتهم له، محطمة كل امال الشعوب ومحبي الحرية والفكر في بناء مجتمعات جديدة حرة تخط طريقها لرسم حاضرها ومستقبلقها، للحاق بركب العيش الانساني، وانتاج الفعل الحضاري ، من خيرات بلدانها وعقول ابناءها، وكانت المواجهة مع المستعمر والانظمة التي تدعم وجوده، وحققت بعض الثورات الوطنية انجازات الاستقلال العسكري مستفيدة من ظروف ضعف القوى الاستعمارية، في الصراعات الدولية، لتجد نفسها من جديد امام صراعات سلطوية للاستئثار بالحكم، مدعومة من قوى الاستعمارية، تربطها بالتبعية السياسية والاقتصادية، لتنتج هذه الانظمة الازدواجية التلفيقية ، بين محاولة الرغبة للانتماء للعصر، والاستفادة من منجزاته المادية، والتشبث بجذور الاستبداد السياسي والديني في ماضي ارثها،
ان انظمة الدولة الوطنية، لم تقم على الحسم القطعي لنقل مجتمعاتها الى طريق التطور الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والثقافي، بحكم تبعيتها لاهداف الرأسمال العالمي وخضوع قرارها السياسي والاقتصادي لأدواته، وتبعا" لهذه العلاقة التبعية، تم القضاء على الطبقة البرجوزاية الوطنية، التي كانت يمكن ان تشكل القاعدة المادية، لانطلاق الثورة السياسية و الاجتماعية والعلمية والفكرية، على صعيد بناء مجتمع مدني علماني يلحق بركب الحضارة الانسانية،
وتحويلها الى طبقة تجار تهدف للربح المادي شعارها الاحتكار وتصدير المواد الوطنية الخام للخارج، واستيراد المنتجات الحضارية الغربية وتقنيات تطورها جاهزة للاستهلاك ، مدمرة بالتواطؤ مع هذه الانظمة الاستبدادية، كل مراحل الثورة الاقتصادية الاجتماعية، مغلقة الطريق امام الطاقات البشرية للانتاج وخلق ازمات البطالة وتدني المستوى المعيشي للمواطن، وقاتلة للكفاءات العلمية،و للنهضة العلمية ،و لانتاج ثورتها المعرفية على كل مستويات النشاط الانساني،
ان بقاء هذه الانظمة الاستبدادية ، انجبت كوارث طالت الاوطان والمواطنة، وشكلت منظومة تدميرية للانتاج الفكري والابداعي في عقل ووعي انسانها، أفقدته القدرة على تقبل المنتج المعرفي والفكري والحضاري للشعوب التي أنجزت هذه الحضارة العلمية والتقنية التي يستهلك مقتنياتها المادية، والانغلاق على ارثه الاستبدادي السياسي والديني والاجتماعي، مما جعل هذا العقل المتحجر لقمة سائغة، للتعصب الأعمى، والافق الضيق في رؤيته للمعرفة، والانصياع و الطاعة العمياء، لهذه الانظمة الاستبدادية ، التي تهدف الى تزيف وعيه وتجهيله، لبقاء التحكم في مصيره، ومناهضة كل فكر تنويري يهدف لنشله من عتمة جهله.
ان سطوة هذه الانظمة، انعكس على الوعي الجمعي والفردي في العلاقات الاجتماعية، مرسخة ثقافة التسلط والعبودية والخنوع، والعنف والانتهازية والخوف والعجز، والكذب والرياء، والكبت القهري، الذي انتج كوارث اجتماعية وانسانية على المجتمع والفرد.
ومن هنا تحارب هذه النظم ، العقل النقدي والفكر التقدمي ، لان النقد هو الاداة الفعالة لكشف الحقائق والوهم والتزوير ،
وغيابه يعني بقاء هذا العقل مخزنا" مقتصرا" على جمع المعارف ، وعدم استيعاب التجارب الحضارية للشعوب، على انها وعي حركة العقل في صيرورته التطورية للمستقبل، وإبقاء هذا العقل مشدودا بإرثه الاجتماعي والثقافي والديني ، دون نقد او تمحيص في حقائقه، لإبعاده عن ثقافة الحياة والمعاصرة الحضارية، خانقة كل شروط انتاج الفكر التنويري والعلمي وأهمهاغياب الحرية ، التي تساهم في هجرة الكفاءات العلمية والفكرية الابداعية لخارج اوطانهم، فتحرم هذه الاوطان من فرص التطور والتقدم العلمي والاجتماعي والانساني، وهذا بدوره يحرم المجتمع من الحرية ومن تحقيق مبدأ العدالة والمساواة وتعطيل حق التشاركية والديموقراطية، في ادارة حياة الفرد والمجتمع
وتسويق مفاهيم الوطن والمواطنة المقيدة بسقف اهدافها ومصالحها مسوقة شعارات مزيفة للوطنية ، في اي خروج فكر حر او انتفاضات للعيش الحر الانساني، عن سقفها وسطوتها، بتعويم ثقافة المؤامرة الخارجية، واعتبارها اطرفا" عميلة ضد الوطن والدين، عبر إعلامها الخاضع للتشويه وتسطيح العقول بحقائق مزيفة لتبرير نتائج استبدادها على صعيد الوطن والمواطنة والانسانية، وخاصة في عصر انتشار المعرفة عبر وسائل التكنلوجيا المتطورة، وعدم قدرتها على مواجهة المد المعرفي، الا بأساليب مبتكرة لنشر الغباء والتجهيل الممنهج، بمساندة الانظمة الدينية ، التي تروج للابتعاد عن قيم المعرفة، باسم الخوف على انساننا وخصوصية هويتنا الثقافية والدفاع عن عقيدتنا الدينية، من خطر الخارج المتٱمر على وجودنا، وذلك ببث البرامج المؤدلجة سياسيا" ودينيا" والانتاجات ا لفنية المزورة للتاريخ والامجاد والانتصارات الوهمية والبرامج السطحية لإبعاد انساننا عن حقيقة ازماته الوجودية.
اما على الصعيد التربوي الذي يكون محتكرا" من قبل هذه الانظمة الاستبدادية ، فالتعليم بظل ايديولجتها التكتيكية، لم تعد مركزا لبناء الانسان المفكر المنتج للمعرفة والابداع لتطوير المجتمع ، وتحريره من الجهل والامية المعرفية والانسانية، بل يكون أرجوحة تكتيكية لنشر المعارف التي تخدم سلطتها حسب توجهاتها الحاضرة والمستقبلية، وهذه الانظمة تخاف من وضع استراتجيات بعيدة المدى القادرة على تنمية وتطوير العقول وبناء الانسان، لكي لاتصبح خطرا" عليها فتحرص على سياسة الازوداجية ، واظهار علمانيتها حينا، بضغط عصر المعارف ، والتشبث بالهوية الدينية حينا لإبقاء المجتمع والانسان تحت سيطرة العلاقات المستبدة، لتضمن عقولا منتجة للتسلط تحت ستار امني لخلق وعي متناقض بين الوعي والممارسة للفرد، بين التشدد للموروث، والاستفادة من منجزات الحضارة بأدواتها التقنية ورفض ثورتها المعرفية والمجتمعية والانسانية
في ظل هذا الواقع المأزوم وجوديا وحضاريا، عل صعيد المجتمع والانسان والانظمةلا يكون الحل إلا بالخروج من هذا المأزق الحضاري ، الا بنشر الوعي والضغط التنويري في المجتمع ، لإيقاظ الوعي الجمعي والفردي،حل ليس بالامر السهل لأن طريقه محفوفا بالمخاطر والصعوبات، والمعيقات ويحتاج الى التفكير الموضوعي، والشفافية والجرأة في طرح القضايا المصيرية، بأدوات علمية ، ورؤى بعيدة عن التأطير الايديولوجي
ورغم صعوبة اختيار طريق النور والحياة والحرية، إلا انه ليس مستحيلا، لأن المعرفة والنور هي التي تصنع الانسان الحضاري، القادر على بناء مجتمعات تتحدى السقوط والإنزلاق الحضاري، والفناء الوجودي
* الجزء الثالث والأخير من معيقات التنوير في الوعي الانساني