الفتنة تضرب من جديد
وعاد الشارع ليقول كلمته من جديد ولكن بصورة أكثر عنفاً وأوسع نطاقاً وأخطر شعارات، وذلك بعد أن نتج عن الاستشارات النيابية الوزير السابق حسان دياب كما توقع الجميع. والشكل والمضمون للتظاهرات الجديدة يدلان على أن الفوضى المفرطة عنوانها الغضب لعدم تسمية الرئيس الحريري لتولي رئاسة الحكومة العتيدة. ولسنا في معرض مناقشة سياسية لنتيجة الاستشارات ودعوى عدم ميثاقيتها وسبب خروج الحريري، فقد قيل الكثير في كل ذلك ولا نعيد.
والمنحى الذي وصلت إليه هذه التظاهرات وتعدياتها تكاد تكون الأخطر منذ بدء اندلاع الانتفاضة منذ أكثر من شهرين، فعدا عن العنف الظاهر في الأسلوب، فإنها سيطرت في مناطق تعتبر خطوط تماس مع الشارع الآخر في مواقع عدة، والشعارات المذهبية بدت في أقصى تجلياتها. ونسجل بعض الأقاويل في هذا الصدد:
1- لقد جرى تبرئة الحراك المطلبي من هؤلاء المشاغبين وممارساتهم الفئوية السياسية البعيدة عن المطالب التي نادى وينادي بها المنتفضون، فهؤلاء ليسوا سوى بعض تجمعات تيار المستقبل وهم بما قاموا به يعتبرون خارج كنف الانتفاضة المنظمة.
2- كما جرى تبرئة تيار المستقبل منهم على اعتبار أنهم ليسوا سوى أنصار غير منظمين للحريري والغيارى على موقعه كرأس للطائفة السنية.
وسواء قبلنا بأي من الاحتمالين فكلاهما مصيبة لأن ذلك يدل على أن الرئيس الحريري لا يستطيع السيطرة على شارعه وأنصاره، أو يمكن القول إن كلماته الموجزة الباهتة الواهية على التويتر لتهدئة الأوضاع لم تكن سوى تبادل أدوار، وأنه يبارك ما يحدث.
3- وقيل أخيراً أنهم في غالبيتهم من خارج الانتفاضة وتيار المستقبل، وهم ليسوا سوى مندسّين أو متضررين من تسمية الدكتور دياب، وهؤلاء طالما أساؤوا للانتفاضة في قطع الطرقات وإشعال الإطارات وإذلال الناس ومنعهم من التحرك بحرية. وهذا يقلق أكثر من ما سلف، لأن ذلك يعني سهولة اختراق الطابور الخامس والمندسّين لأي موقع وتجمع وتظاهرة مهما كانت مطالبها لتعكير الأجواء في أي وقت وإيقاع الشغب في البلاد وتسعير الفتنة المذهبية.
وما يلفت الانتباه ويثير الغيظ والاشمئزاز، تصريح للرئيس السنيورة، وهو الخط الأحمر الشهير الممنوع اجتيازه، والقامة المذهبية التي لا يُسمح بالتعرض لقدسيتها، مهما كبرت في حقه الدعاوى، يقول إن نتيجة الاستشارات كانت تجاوزاً للصوت السني وبالتالي تجاوزاً للميثاقية في لبنان. وهو تصريح يشجع ما سبق من الشغب وما تلاه بعده، أي أنه تحريض على التوتر والبلبلة في مجتمع له القابلية الكبرى للوقوع في أتون المذهبية السنة الشيعية، وهذا ما يعرفه السنيورة وأمثاله جيداً.
ما جرى في اليومين الماضيين تمّ استيعابه بشيء من الإعجاز، وكان يمكن لأي حدث أمني يسقط فيه ضحايا أن يحرق البلاد بسرعة قياسية. لذا على المعنيين من الواعين من أهل السياسة والإعلام وغيرهم تغليب الحكمة عند التعبير عن الآراء المختلفة، فلكل كلمة مشبوبة شارع يثور، ولكل صورة مستفزة أناس تدفعهم الحميّة، ونحن في لبنان نهبّ بحماسة جيّاشة لا عقل لها باسم الزعيم والدين والطائفة والمذهب والحزب والعائلة والمنطقة وكل ما يميّز فئة عن فئة، ونفعل في سبيل هذا التميّز الأفاعيل، ولا عجب أننا نعيش منذ عشرات السنين في حروب تصغر حيناً وتكبر أحياناً، ونُلدغ من الجحر عينه في كل يوم، لا نرعوي، ولا نعتبر، ولا نتوب.