الغنى عار في بلد يحكمه الفساد..
هدى سويد ـ إيطاليا
نشرت صديقة لي في لبنان على صفحتها اليوم أسعار بعض المواد الغذائية الضرورية من زيت نباتي وغيره ..
ينشر الكثيرون كل يوم ،وبوسعك التعرف عبر وسائل التواصل الاجتماعي إلى ما وصلت إليه أسعار القوت اليومي التي تتكبّدها الطبقة الفقيرة كما المتوسطة ، أسعار يحلو ربطها بسعر الدولار المرتفع .
مؤلم.. قلت لصديقتي عبر تواصلي الهاتفي معها ووصول الأسعار في بلدنا إلى حد الجنون، وأن يتحول راتب موظف من فئة (دنيا) رابعة إلى أقل بكثير مما يُفترض أن يكون عليه على الأقل . وحسب الدولار الذي اعتاد عليه اللبنانيون في تقدير حساباتهم كان راتب صديقتي يُقدّر بألفي دولار وبات اليوم يٌقارب السبعمائة !
لعلّ وضع صديقتي رغم المصاعب التي تلاقيها مع تدني القيمة إلى هذا الحد المُفجع ، أفضل من المياوم والعامل الذي يحصل على قوته من عمله اليومي إن عمل ، وألأخير أفضل بكثير من العاطلين عن العمل .
شهقت دون أن أصدّق بأن غالون الزيت النباتي الذي لم أتمكن من قراءة وزنه، كيلو أو اثنين لا يهم، لأنه كاف رؤية نوعه، زيت ذرة وليس زيت زيتون، بلغ سعره مئة ألف ليرة ونيف ؟
ناهيك ما يصلني من أخبار المواد الغذائية الضرورية، ولن أتطرق بالطبع للحوم أو الأسماك ،بل الحبوب كالحمص، الأرز و البرغل، ارتفعت أسعارها لما بين الثمانية والخمسة آلاف ! حتى السُمّين الأبيضين رغم سمومهما ،أقصد السكر والملح ،ارتفعا ثلاثة أضعاف .وهكذا الحال بشكل عام ،هو شعار مرحلة التجار في هذا الزمن، وبالطبع لا شأن لوباء الكورونا المستجد، وإن كان عاملا بسبب اعتماد لبنان على الإستيراد ، كما لا علاقة لرمضان أو الأعياد في ارتفاعها كما كان يحصل سابقا بشكل طفيف، فأيام الأعياد انقضت .
شعرت بنوبة بكاء لم أتمكن من ترك عنان الحريّة لها في التعبير ، وإلاّ تتحوّل المؤاساة من وإلى ..
صمت جمعني مع صديقة عمر أخرى كانت قلّما تُعبر عن مكنوناتها الاقتصادية بالتفاصيل . مؤلم حتى العظم حين تبدأ صديقة عمر لك بالبوح . تعمل بكل ما تبقّى لديها من حب وحنان في احتضان أم مصلوبة على الفراش منذ سنين ،وبكل ما تبقى لها من رصيد تعويضها . يكفي القول إن سعر حفاضات العاجز ارتفع من ثلاثين ألف ليرة لبنانية إلى سبعين ألفا ونيف .. ولن نتحدث عن الدواء !
يتفتت القلب إزاء ما يحدث ، إنه انهيار الليرة اللبنانية التي لغاية الآن يستخف بها كثيرون ويعزلونها عن انهيار القطاعات الاقتصادية منها والزراعية ، الصناعية إن وُجدت والإجتماعية وهلم جرا .
انهيار الليرة لا مزاح فيها
للأسف يعني سقوط البلد .
يعني غياب المخلصين من الحكّام في وضع سياسة اقتصادية اجتماعية تحقق الأمن الاجتماعي حاضرا ومستقبلا بمواكبة المتغيرات المحليّة ، الإقليمية والعالمية .
وطالما أن الحكّام غائبون ، وطالما يستمر المواطن بنسبة لا بأس بها في اختيار من يمثله على قاعدة طائفية ومحسوبية وقاعدة الأزلام التي لا تليق بشعب تعاقبت عليه الحضارات ، أو الإستمرار في الإستخفاف بسلم أولوياته، سيدفع المواطن الثمن، ومن سيدفع غيره ؟ ..لعلّ اللبناني المُمتعض ، مسيحي ، سني ، شيعي ودرزي، لم يعرف لغاية اليوم أن عليه وحده دفع الثمن المرتفع .
لا أود المقاربة بين إيطاليا ولبنان، فلكل منهما حيثياته ومشاكله الخاصة ، لكن في هذا المضمار أود الإشارة إلى مثال بسيط :فبرغم كل ما لاقته إيطاليا من سلبيات وأحزان على مستوى انتشار الوباء ،لم يلق المواطن ارتفاع سعر لسلعة غذائية أساسية نظرا للرقابة ،وان حصل وارتفعت سلعة ،وهذا نادر، فالمواطن يتركها في أرضها .
عملت الحكومة عبر كل الوسائل الإعلامية على تشجيع شراء البضائع الوطنية التي تغزو الأسواق . فالإيطالي غيور على انتاجه وصناعته ، إلاّ أن الإقبال عليه بات أكبر ،والأهم أن الأسعار لم ترتفع أو تصل إلى حدود الفجور.
هذا المثال أطرحه لأن علينا معرفة جروحنا وبالتالي سبببها وكيفية مداواتها . الشعوب بحاجة إلى مصداقية حكوماتها وسياسة تحقق الاستقرار والأمان كما الإنتماء والوطنية ،والسياسة هذه بحاجة إلى مواطن ومواطنية كفؤة ، مواطن يعمل على إزالة كل الأفكار البالية والإنتماءات التي أوصلته إلى دفع هذا الثمن الباهظ المجنون ، مواطن لا يركض خلف شعارات ،بل لديه عزم على تحقيقها بحكمة مشروع واتحاد .
يقول الفيلسوف الصيني كونفوشيو الذي عاش ما بين القرنين الخامس والسادس قبل الميلاد :"حين تفقد الكلمات معانيها وفحواها يفقد الناس حريتهم " وهذا ما يحصل في لبنان حيث فقدت الدولة مصداقيتها . ".
ويقول أيضا :في بلد يسوده حكم صالح ، الفقر شيء مُعيب.. في بلد يسوده حكم فاسد يُعتبر الغنى عارا ".