رأي

العَالمُ والجِرِيمَةُ وَسِياسَةُ الصَّمْتِ!(غَازِي قَانْصُو)

 

بقلم:د.غَازِي قَانْصُو – الحوار نيوز

اِسْتَيْقَظْتُ في وَقْتٍ مُبَكِّرٍ مِنَ الفَجْرِ، مُمتَلِئًا بِرُوحٍ مِنَ الطُّمَأْنِينَةِ وَالسَّكِينَةِ، بَعْدَ أَنْ أَدَّيْتُ صَلَاةَ الصُّبْحِ الَّتِي رَبَطَتْنِي بِعَالَمِ الرُّوحِ وَالتَّأَمُّلِ. كَانَتِ الدُّنْيَا لَا تَزَالُ غَارِقَةً فِي هُدُوءٍ مُطْبِقٍ، وَكَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ قَدْ تَجَمَّدَ فِي مَكَانِهِ، إِلَّا نَسِيمُ الصَّبَاحِ الَّذِي كَانَ يَعْبُرُ بِخِفَّةٍ عَلَى وَجْهِي، مِن نافذةٍ بسيطةٍ مفتوحةٍ، كَمَا لَوْ كَانَ النّسِيمُ يَحْمِلُ مَعَهُ أَسْرَارَ الحَيَاةِ وَالطَّبِيعَةِ.
كُلُّ شَيْءٍ فِي تِلْكَ اللَّحْظَةِ بَدَا وَكَأَنَّهُ فِي اِنْسِجَامٍ تَامٍّ، السَّمَاءُ كَانَتْ تُغَازِلُ الأَرْضَ بِنُورِهَا الخَافِتِ، وَعِنْدَمَا اِنْبَثَقَ ضَوْءُ الصَّبَاحِ، تَسَاقَطَ بَرِيقُهُ عَلَى قَطَرَاتِ النَّدَى الَّتِي تَوَزَّعَتْ بِرِفْقٍ عَلَى العُشْبِ الأَخْضَرِ فِي المِنْطَقَةِ الحَدائِقِ. كَانَتِ الصُّورَةُ جَمَالِيَّةً بِاِمْتِيَازٍ، كَأَنَّ الطَّبِيعَةَ قَدْ رَسَمَتْ لَوْحَةً بِيَدِ اللهِ الخلّاقِ العَلِيم، الذي أتقنَ كُلَّ شيءٍ صُنعًا.

أَخَذْتُ فِنْجَانَ الشَّي المُعْتَادَ مِنْ مَكَانِي المُحَبَّبِ لَدَيَّ، وَارْتَشَفْتُ أُولَى رَشْفَةٍ بِهُدُوءٍ تَأَمُّلِيٍّ. كَانَتْ تِلْكَ الرَّشْفَةُ أَشْبَهَ بِطَقْسٍ يَوْمِيٍّ أُعِيدُ فِيهِ تَرْتِيبَ أَفْكَارِي وَمَشَاعِرِي، وَأَسْتَعِدُّ لِمُوَاجَهَةِ أَيِّ شَيْءٍ قَدْ يُوَاجِهُنِي فِي هَذَا اليَوْمِ.
لَطَالَمَا كَانَ لِفِنْجَانِ الشّاي هَذَا مَكَانَةٌ خَاصَّةٌ فِي نَفْسِي، فَإِلَى جَانِبِهِ كُنْتُ أَشْعُرُ بِالاِرْتِيَاحِ وَالتَّوَازُنِ. أَغْمَضْتُ عَيْنَيَّ لِبُرْهَةٍ وَأَنَا أَسْتَشْعِرُ الطَّعْمَ المُتَمَيِّزَ لشايِ سيلانَ يَتَسَرَّبُ إِلَى دَاخِلِي، مَلَأَنِي إِحْسَاسٌ بِالاِسْتِعْدَادِ لِكُلِّ تَحَدِّيَاتِ الحَيَاةِ الَّتِي قَدْ تَعْتَرِضُ طَرِيقِي، وَكَأَنَّنِي بِهَذَا الفِنْجَانِ أَسْتَمِدُّ طَاقَةً جَدِيدَةً تَمْلَؤُنِي بِالْعَزِيمَةِ.

لَكِنْ، وَكَمَا هِيَ الحَيَاةُ، حَيْثُ الجَمَالُ قَدْ يَعْقُبُهُ الحُزْنُ، أَوِ السَّكِينَةُ قَدْ تَعْقُبُهَا الفَوْضَى، حَدَثَ مَا كانَ فِي الحُسْبَانِ، في هذهِ الأيام؛ فِي لَحْظَةٍ، تَمَزَّقَتْ سَكِينَةُ الصَّبَاحِ، وَتَلَاشَى ذَلِكَ الهُدُوءُ الجَمِيلُ. سَمِعْتُ صَوْتَ اِنْفِجَارٍ ضَخْمٍ، صَوْتٌ طَبِيعِيٍّ يُفَجِّرُ الحياةَ، كَأَنَّ الأَرْضَ اِنْفَجَرَتْ مِنْ تَحْتِنَا. كَانَتِ الصَّوَارِيخُ تُلْقَى عَلَى البُيُوتِ كَأَنَّهَا مَطَرٌ قَاتِلٌ، وَاِنْقَلَبَتِ الصُّورَةُ الرَّائِعَةُ الَّتِي كُنْتُ أَعِيشُهَا إِلَى مَشْهَدٍ مِنَ الجَحِيمِ. رَأَيْتُ أَعْمِدَةَ الدُّخَانِ تَتَصَاعَدُ مِنَ البُيُوتِ، وَرَائِحَةَ المَوْتِ مَلَأَتِ المَكَانَ. الدِّمَاءُ بَاتَتْ تُلَطِّخُ الشَّوَارِعَ، وَالجُثَثُ تَسْقُطُ كَأَوْرَاقِ خَرِيفٍ قَاسِيَةٍ عَلَى أَرْصِفَةِ المَدِينَةِ.

فِي تِلْكَ اللَّحَظَاتِ، شَعَرْتُ بِالْعَجْزِ. تَسَاءَلْتُ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْعَالَمِ أَنْ يَنَامَ عَلَى مِثْلِ هَذِهِ المَشَاهِدِ، كَيْفَ يُمْكِنُ أَنْ يَبْقَى أَسْيَادُ العَالَمِ فِي بُرْجِهِمِ العَاجِيِّ بَعِيدِينَ عَنْ رُؤْيَةِ هَذَا الجَحِيمِ المُسْتَعِرِ. هَلْ هُمْ فِي صَمْتِهِمْ مُتَوَرِّطُونَ فِي هَذِهِ الجَرَائِمِ؟ كَيْفَ يُمْكِنُ لَهُمْ أَنْ يُغْضُوا الطَّرْفَ عَنْ هَذِهِ المَجَازِرِ الَّتِي تُطَالُ الأَطْفَالَ وَالنِّسَاءَ وَالشُّيُوخَ؟ أَيْنَ هُمْ حُكَّامُ مَجْلِسِ الأَمْنِ، الْقَائلُونَ بِالسِّلْمِ وَالْأَمْنِ الدَّوْلِيَّيْنِ، أيْنَ الْمُتَكَلِّمُونَ بِشُرْعَةِ حُقُوقِ الإنسَانِ؟ أَيْنَ النَّاطِقُونَ “بِمَسْخَرَةِ” الشَّرْعِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ؟ ايْنَ الْحَرِيصُونَ عَلَى الْقَانُونِ الْعَالَمِيِّ الْانْسَانِيِّ، ايْنْ مُنَظَّمَةُ الْعَدْلِ الدَّوْلِيَّةُ، أَيْنَ حُكَّامُ الدُّوَلِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ وَفِي مِسَاحَاتِ الْعَالَمِ كُلِّه؟ ايْنَ رُؤَسَاءُ الدِّينِ الْعَالَمِيُّونَ ؟ ايْنَ رُؤَسَاءُ الْحَرَكَاتِ الشَّعْبِيَّةِ الْعَالَمِيُّونَ ؟ . .
صَمَتُوا، وَبَالَغُوا فِي الصَّمْتِ ، كَالْحِجَارَةِ الصَّمَّاءِ ، اوْ أَشَدَّ صَمْتًا مِنْ الْحِجَارَةِ، هَؤُلَاءِ هُمُ الَّذِينَ يُفْتَرَضُ بِهِمْ أَنْ يَكُونُوا حُمَاةً لِلسَّلَامِ وَالعَدَالَةِ؟ وَلَكِنْ، لَا، فَهُمْ فِي عَالَمِهِمِ الخَاصِّ، يَرَوْنَ وَلَا يَرَوْنَ، يَسْمَعُونَ وَلَا يَسْمَعُونَ، يَعِيشُونَ فِي رَفَاهِيَةٍ أبراجِهِم غَيْرِ عَابِئِينَ بِمَا يَحْدُثُ هُنَا.

الجَرِيمَةُ مُسْتَمِرَّةٌ، لَا يَبْدُو أَنَّ هُنَاكَ نِهَايَةً لَهَا فِي الأُفُقِ. جِيلٌ بَعْدَ جِيلٍ يَشْهَدُ نَفْسَ الدَّمَارِ، نَفْسَ الصُّوَرِ المُؤْلِمَةِ، وَنَفْسَ القِصَّةِ تتكرَّرُ. مَتَى سَيَنْتَهِي هَذَا الكَابُوسُ؟ لَا أَحَدَ يَعْلَمُ.

وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ،
مَعَ تَحِيَّاتِي،
د.غَازِي مُنِيرِ قَانْصُو
صباح الاربعاء، في ٢٣- ١٠-٢٠٢٤

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى