العلامة الخطيب في خطبة الجمعة يدعو اللبنانيين لوقف الجدل العقيم والذهاب إلى الحوار: أُريد للبنان من خلال الصيغة الطائفية أن يكون باب الشر للمنطقة
الحوار نيوز – خطبة الجمعة
دعا نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى العلامة الشيخ علي الخطيب اللبنانيين “في هذه اللحظات الخطيرة إلى الوقوف صفاً واحداً، ووقف الجدل العقيم” .وقال “إنّ الحياة بكل مجالاتها ساحات للحوار، ومن دون حوار يعني لا حياة، فالذين يرفضون الحوار إنما يحكمون على أنفسهم بالموت”.
ولاحظ أنه “أُريد للبنان من خلال الصيغة الطائفية أن يكون باب الشر للمنطقة”.
أدى العلامة الخطيب الصلاة في مقر المجلس اليوم، بعد أن ألقى خطبة الجمعة التي جاء فيها:
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أيّها الأخوة والاخوات، لعل أهم ما نحتاجه اليوم في لبنان وفي خضمّ الجدل القائم حول الوضع اللبناني هو حاجة اللبنانيين الى الاستجابة لهذه الدعوة الإلهية بالتزام التقوى، فيما نطلقه من أقوال بأن نقول كلمة الحق والصواب، وأن يكون في قولنا التسديد والنصيحة بعضنا لبعض الذي يصبّ في مصلحة اللبنانيين جميعاً، وان نبتعد عن المخاتلة والمخادعة والاتهامات الباطلة التي يَترتّب عليها فساد العيش وفساد العلاقات بين الناس وتفرّق شملهم وإيقاع الفتنة فيما بينهم، ويكشف عن سوء السريرة والدخيلة وعن سوء الخلق والعشرة الناتج عن سوء التربية وفسادها، فالله سبحانه حينما يُوجّهُنا هذا التوجيه فليس هذا عن عبث وإنما لعلمه بأن الإنسان قد تدفعه أهواؤه لتنكب الطريق والوقوع في الغي، لذا أراد تنبيهنا الى العمل على إصلاح أنفسنا والتأكيد على حسن التربية وخصوصاً في القول، وأن يكون القصد منه اتجاه الآخرين هو تسديدها ونصحهم وليس الإيقاع بهم، فالمطلوب هو التناصح وأن يسدد بعضنا رأي الآخر فإن في هذا صلاح المجتمع وصلاح أعمال القائل بما يعود عليه بذاته خيراً في الدنيا والآخرة، فإن نتائج العمل الصالح أول ما تعود اليه.
لذلك فإنا نسأله سبحانه التوفيق لخدمة شعبنا وبلدنا وأمتنا بما يخدم قضايانا الوطنية وعلى رأسها أن نقول ما نرى فيه التسديد والنصيحة للناس التي تحتاج الى من يوجّهها ويسدّدها في الرؤية والموقف دون حسابات خاصة نابعة من هوى مذهبي أو مصلحة خاصة وخصوصاً في القضايا الكبرى والمواقف السياسية التي هي أخطر من أي مسألة أخرى، لأنها إما أن تؤدي إلى الخراب أو تؤدي إلى الأمان والاستقرار، وهنا نتحدث عن المصير ولذلك نقول ومن هذه الخلفية وفيما خصّ المسألة اللبنانية أن وحدة الشعب اللبناني تُشكّل القاعدة الاساسية والباب الذي يفتح طريق الحل لكل ما يعانيه اللبنانيون من مشاكل وأزمات، فالانقسامات السياسية الحادة التي تحكم الواقع السياسي الداخلي وتُعطى طابعاً طائفياً هي المشكلة التي أُريد لها أن تكون القاعدة التي تأسّس عليها الكيان اللبناني ليبقى هذا الكيان هشّاً وضعيفاً خدمةً لأغراض خارجية وليس لأهداف وطنية أو خدمة لهذا الكيان، وهذا الكلام لا أقصد به التشكيك بنوايا الذين ساهموا في وجوده وإنما بحكم التجارب والنتائج التي أنتهت إليها هذه التجارب الفاشلة أنَّ الأسس التي أعتمدت لقيام هذا الكيان كانت هشّةً وضعيفةً سرعان ما يؤدي الى أن يتهاوى عند أدنى اهتزاز خصوصاً أن المحيط الذي تواجد فيه عند قيامه لم يكن محيطاً مستقراً وهادئاً قد أخذ وضعه الذي يجب أن ينتهي اليه، بل على العكس من ذلك فإن العالم العربي ومنه لبنان خرج بعد انهيار الدولة العثمانية ضعيفاً مُفكّكاً غير قادر وغير متاح له أيضاً الاعتماد على نفسه وأخذ زمام أموره بيده، إذ فرض المنتصرون إرادتهم وجعلوا من أنفسهم أوصياء عليه لا يملك من أمره شيئاً، فالقوى التي هيمنت على المنطقة حقّقت حلمها التاريخي في الإنتقام للماضي وفي وضع اليد عليها كأهم منطقة استراتيجية بعد انتصار الحلفاء الذين بادروا إلى تقسيمها فيما بينهم ووضعوا في أساسها بذور عدم الاستقرار في خطة خبيثة لتبقى لهم السيطرة، وفي نفس الوقت لتبقى لهم مرجعية القرار في أي مشكلة متوقعة.
لذلك فإن ما حصل في المنطقة لم يكن من صنيعة شعوبها وإنما فرضته إرادة الدول الاستعمارية الغربية التي تغلَّبت على إرادة شعوبها الرافضة لكل ما جرى، ولكنها غُلِبت على أمرها فلم تُستشر فيه إذ لم يجرِ استفتاء واحد تبدي فيه رأيها لتختار ما تراه مناسباً ولتقرّر مصيرها بيدها، ولذلك فسح المجال واسعاً للانقلابات التي غالباً ما تكون بتخطيط القوى الاستعمارية المتغلّبة التي لم نرَ في كل ما جرى تطبيقاً لأي من الشعارات التي ادّعت إرادة نشرها من حرية الشعوب في تقرير مصيرها وتحقيق الديمقراطية المزعومة في العالم وحقوق الانسان، وإنما على العكس من ذلك فقد كمّت الافواه وعطّلت إرادة شعوب المنطقة وعُمِل على ضرب عوامل وحدتها وقوتها باستبدال ثقافتها عبر تسخيفها وتحميلها أسباب فشلها وتراجعها وأُعطيت لذلك مُسمّيات التخلف والرجعية وكل عناوين التوهين وأشعار الاجيال بالخجل منها ووضعت المرجعيات الثقافية والفكرية الاسلامية في موقف الدفاع أمام هذه الهجمة الشرسة التي أُبعدت عن مواقع التأثير في المجتمعات العربية والاسلامية وحلَّ فيها صنائع الغرب الذين أعدوا لهذه لمهمة من التشكيك الفكري الايماني ونشر الفكر الذي يُلبّي حاجة المستعمر في قطع الامة عن تاريخها، والاخطر قطعها عن مرجعياتها الدينية والثقافية واستبدالها بمرجعيات متعددة الانتماءات مهمتها تنفيذ مآرب الغرب بإفساح المجال أمام صراعات فكرية لا تنتمي لها، وكان الدافع لها إثارة الصراعات الحزبية التي لا يجمعها جامع، كما عمدت الى تشويه المقاومة التي نشأت في وجهها بالنفوذ اليها وإثارة الصراعات المسلحة بينها بتوسيع الهوّة بينها، وتوجيه الرأي العام الى عوامل الاختلاف والاغماض عن العوامل المشتركة والجامعة، وهكذا فلا تكاد تجد طرفين أيديولوجيين مُسلِمَين مثلاً يجتمعان على رأي جامع، فأفسد الغرب الأمة أيّما إفساد في الثقافة والاجتماع والسياسة، وهكذا استطاع الغرب أن يُبعثر القوى التي يخاف منها نشر الوعي وتنبيه الأمة إلى مواطن الخطر على مصالحه وخططه والتي تمتلك من العمق الفكري وقوة الحجة والبعد الثقافي والتاريخي ما يقلق الغرب ويثير مخاوفه، فعملت على تفتيتها وسَعَّرت عوامل التفرقة بينها على اختلافها دينية وطائفية وسياسية وحزبية التي جعلتها تنخرط بذلك في تنفيذ إرادة الغرب دون أن تدري، وكانت ثالثة الاثافي أن زرعت الكيان الصهيوني في قلبها ليُعمّق العوامل السلبية فيها ويبقيها رهينة هذا الواقع الذي لا تجد معه منفذاً للخلاص، على أن مشاريع بعض الحركات السياسية الاسلامية في نفسها انطلقت من توجهات طائفية وحزبية أثارت المخاوف لدى الاخرين منعتها من القدرة على استيعاب الأمة وأخفقت بالتالي في مواجهة المشروع الغربي والتخلّص منه.
لقد قيل أن الهدف من خلق الكيان اللبناني ليكون ملتقى للثقافات المختلفة ومكاناً لتلاقح الثقافات بين الشرق والغرب، وهو بحد ذاته هدفٍ سامٍ لو كان الأمر كذلك، ولكن هذا يحتاج إلى تحقق بعض الشروط الغير متوفرة للأسف وأولها التناظر بين الثقافات في الامكانيات والمساحة المعطاة لكل منها في الواقع العملي والثقافي والتعليمي، وعلى الاقل أن يُفسح المجال وبنحوٍ عادل لأن تُعبّر كل ثقافة عن نفسها في المدرسة والجامعة ووسائل الإعلام وفي غيرها من وسائل التأثير العام، وبدلاً عن ذلك ضُيّق المجال على الثقافة الدينية بشكل عام لصالح الثقافة الغربية إلى حدّ أن تكون هي من يُعبّر عن الثقافة الدينية أعطتها تفسيرات مغلوطة ومشوّهة.
وبهذا اتضح أن الوظيفة المعطاة للكيان اللبناني ليس ما اُدّعي من التلاقح بين الثقافات وتقريب المسافات، وإنما الترويج للثقافة الغربية والتأثير على الاجيال وتحويلهم الى أدوات تابعة لتحقيق الاهداف الاستعمارية وليكون لبنان معبراً لتحقيق الانقلاب الثقافي في المنطقة بعد أن أُعطي المجال ليكون المدرسة والمستشفى ومركز التحولات الثقافية والفكرية للمنطقة التي تخدم المشروع الاستعماري التآمري الغربي.
لسنا هنا في موقف الرافض لأن يكون لبنان ملتقى الثقافات وموئلاً للحريات، وأن يقوم بدور التلاقح بين الثقافات بين الشرق والغرب بل على العكس من ذلك ولكن هذا كان مجرد ادّعاء تدحضه الوقائع.
لقد أُريد للبنان من خلال الصيغة الطائفية أن يكون باب الشر للمنطقة فمن خلاله تُثار الخلافات المذهبية فيها ومن خلاله يواجَه اي مشروع نهضوي في المنطقة ومن خلاله يُمرّر فيه أي مشروع تآمري، ومن خلاله وفيه تُصفي بعض الانظمة العربية حساباتها فيما بينها، ومن خلاله يُتآمر على بعض الدول العربية وتمرر المشاريع الدولية كل ذلك بفضل الصيغة الطائفية، لذلك لن يُسمح للبنان بإصلاح النظام وبسبب كل هذه الوظائف التي يؤديها هذا النظام بما فيهم بعض زعماء الطوائف المنتفعين منه إلا أن يتفلت اللبنانيون من قيودهم الطائفية ويخرجوا من الدوائر التي وُضعوا فيها مغمضي الأعين إلى رحاب المواطنة والأنسنة ومن زنازين العصبيات الطائفية إلى فضاء الحرية.
لقد تواطأت بعض الفئات في لبنان التي ارتبطت مصالحها الفئوية بالغرب على القيام بهذا الدور الخطير وانخرطت في مشاريعه التفتيتية والتقسيمية والوقوف موقف العداء والمناهض لكل مشروع نهضوي في المنطقة وتشويهه والتجييش ضده إعلامياً وثقافياً والتآمر عليه وإسقاطه كلما سنحت لها الفرصة بذلك، وكان نصيب المقاومة ضد المشروع الصهيوني من هذا العداء والتآمر والتشويه الحظ الوفير، ولذلك لا نستغرب ما تتعرض له المقاومة اليوم في المنطقة ولبنان بالأخص من العداء والتشويه للدور والاهداف والتحريض عليها.
لقد أثبتت المقاومة تجاوزها للعقد المذهبية والطائفية، وأنها وطنية بالدرجة الاولى، وأنها الاحرص على لبنان المتعدد والمتنوع، وأنها لا تنطلق من غايات مذهبية أو طائفية أو حتى سياسية مع اعتراف الجميع بأن الكيان الصهيوني عدو للبنان كما هو عدو لكل شعوب المنطقة ودولها ومحلّ أطماعه، وأنه يُشكل خطراً ليس على المنطقة فقط بل أن العدو له هو هذا المجتمع المتنوع ثقافياً وفكرياً ودينياً الذي يناقض وجودُهُ وجودَه، كما يشكل التحدي الحضاري له ويدحض مبررات هذا الوجود وخصوصا بعد أن افتُضِح أمره في معركة طوفان الاقصى الذي يمارس فيه افظع الجرائم الوحشية بحق الشعب الفلسطيني من الأبرياء أطفالاً ونساءً وشيوخاً ورجالاً ومدارس ومؤسسات دولية حتى ضجَّ العالم من ارتكاباته وجرائمه، أليس هذا كافياً لمن كان له أدنى شعور أن يكون هو الضحية التالية بعد الشعب الفلسطيني وما يجري في غزة إذا لم يكن لديه ما يردع به العدو؟ ألا يكفي أيها اللبنانيون أن يكون ما يجري في غزة مبرراً لوجود المقاومة اللبنانية؟؟ فهذا العدو لا يرى إمكاناً لبقائه بل وجوده الا التعامل مع شعوب المنطقة الا بالقوة والاخضاع بل بإلإفناء والخلاص منها لتحقيق حلمه المزعوم بأن حدود دولته حيث تُمكّنه قوته من الوصول اليه.
فهل من العقل أن نُهشّم البلد اليوم ونُحرّض على المقاومة التي هي ورقة القوة الوحيدة لمواجهة أطماعه وعنجهيته؟؟ وهل يمكن التعويل على مجلس الامن والقرارات الدولية والمؤسسات الدولية في حماية لبنان وشعبه بعد الذي رأيناه منها في غزة حيث عجزت عن الدفاع عن مؤسساتها ومنع العدو من تهديمها وقتل موظفيها والنازحين إليها فلم تستطع حمايتهم؟؟.
لا أيها اللبنانيون،”ومن لم يذد عن حوضه بسنانه يهدم”، هذا هو المنطق، أما منطقهم فالشطر الثاني من البيت وهو: “ومن لا يظلم الناس يظلم”، هذا هو منطقهم، لذلك فإن هذا يستدعي من اللبنانيين في هذه اللحظات الخطيرة الوقوف صفاً واحداً ووقف الجدل العقيم وتسجيل المواقف التي لا تعود إن عادت إلا بالسوء على أصحابها أولاً.
إنّ الحياة بكل مجالاتها ساحات للحوار ومن دون حوار يعني لا حياة، فالذين يرفضون الحوار إنما يحكمون على أنفسهم بالموت، لذلك فإن السبيل الواقعي والانساني والاقل كلفة محصور بالحوار، وإلا فهي دعوة جديدة للعنف جُرّبت ولم تجلب الا الخراب والدمار والآلام وتكثير القبور والمآسي وتحقيق رغبة العدو.
إنّ أعظم إنجازات المقاومة هي كشف حقيقة الغرب الذي كان يمارس الخداع لشعوب العالم ويقف خلف ما يجري من عدوان صهيوني على شعوبنا والتحدي الصارخ للشعب الفلسطيني خصوصاً في غزة وجبل عامل لجبروت العدو وآلته العسكرية ووحشيته التي لا حدود لها بصبره وتحمله لكل يواجهه من مصائب وما يبذله من تضحيات غير مسبوقة وإصراره على انتزاع حقه من فم هذا الوحش الذي يبدو عاجزاً امامه عن اخضاعه والتسليم له بأنه الاقوى، بل يثبت انه هو الاقوى والعدو هو الأضعف والاعجز انه سيجبره على الانصياع له وتسليمه بالانتصار.
(ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ).