الحوار نيوز – عاشوراء
رأى نائب رئيس المجلس الإسلامي الشيعي العلامة الشيخ علي الخطيب أن “لا سبيل للإبقاء على لبنان إلا بتجاوز الذهنية الطائفية إلى رحاب دولة المواطنة، التي وحدها تحفظ الطوائف، بدلاً من الطائفية التي لم تصنع وطناً ولم تحافظ على الطوائف.
ودعا المسلمين “إلى تجاوز عقدة التفكير المذهبي الذي كان علة مصائبهم وتخلفهم، والارتقاء بتفكيرهم إلى رحاب الاسلام الجامع، إلى رحاب الامة كما أمر الله تعالى”.
وقال العلامة الخطيب في كلمة في المجلس العاشورائي الذي تقيمه جمعية التعليم الديني في قاعة الجنان :
السلام عليكم ايها الأخوة والاخوات المؤمنون والمؤمنات ورحمة الله وبركاته، وأعظم الله لكم الأجر بشهادة سيد الشهداء وأهله وانصاره الذين وفوا لإمامهم (وصدقوا ما عاهدوا الله عليه وما بدلوا تبديلاً) وبذلوا أنفسهم دونه انسجاماً مع إيمانهم وعقيدتهم بأنه الامام الذي عُهِدَ إليه حمل الرسالة وأحقيّة القضية التي انبرى للدفاع عنها في مواجهة النظام ألاموي الذي شكَّل الخط المضاد والمعادي لها، وحالة منافقة إنقلابية أرادت دفنها والقضاء عليها والثأر لإسقاطها الجاهلية ورموزها الذين قضوا بسيوف الإسلام وأبطاله من الهاشميين على يد علي والحمزة في معركة بدر أودت بمقتلة عظيمة وقعت فى عائلة هند بنت عتبة، شملت أباها عتبة بن ربيعة، وعمها شيبة بن ربيعة، وأخاها الوليد بن عتبة من أبطال الشرك كان وقعها عظيماً مادياً ومعنوياً على نفوس المشركين وبالأخص على بيت أبي سفيان خصوصاً وعلى الامويين عموماً، مما أضاف الى حقدهم وحسدهم القديم لبني هاشم حقداً وضغينة وتسبَّب بهزيمة نكراء شكَّلت تحوّلاً أساسياً في تاريخ الإسلام، إذ كان لهم شرف سدانة الكعبة وعلوّ المقام لدى العرب، فالعداء الاموي للهاشميين بخلفية قبلية جاهلية حيث بادروا الى إظهار العداوة واعلان الحرب على النبي ورسالته وبني هاشم الذين صدّقوه وآمنوا بدعوته، وتفسير هذا الخلاف على أنه صراع قبلي تفسير تضليلي يستبطن الكفر بالرسالة والدين ويضع النبي ومن آمن به في نفس الموقع مع الكافرين والمشركين، وقد استمر هذا التشويه الذي يقف خلفه الحزب الاموي الذي استمر في حربه الخفية على الإسلام بعد أن دخل الإسلام نفاقاً وأشاع أن النزاع بين أمير المؤمنين(ع) وبين معاوية هو نزاع على السلطة.
لقد كان واضحا لأمير المؤمنين (ع) من طبيعة المجريات مع الرسول (ص) ومنها بعثة اسامة ثم ما عرف برزية الخميس والتمرّد على الرسول وعدم الاستجابة له بأن يكتب لهم كتاباً لن يضلوا بعده أبداً، وأن الامور ستأخذ مجرى الصراع على السلطة، وأن الرسول (ص) حفاظاً على الرسالة أوصاه بالصبر وعدم الدخول في صراع مع القوى التي قررت انتزاعها بكل وسيلة وهو ما حصل بعد الهجوم على بيته.
لقد كانت عملية انقلابية بكل معنى الكلمة أحبطها أمير المؤمنين (ع) بوصية من رسول الله (ص) ربما لم يعلم بها القائمون على الانقلاب تصوروا انه سيواجهها ستفضي إلى قتله والتخلص منه.
ولكن أمير المؤمنين (ع) اتخذ منحاً آخر وأخرج نفسه من هذا الصراع ليفرغ نفسه لحفظ الإسلام ووحدة الامة وقال كلمته المشهورة “والله لأُسلِّمنَّ ما سلمت أمور المسلمين”، من خطبة أمير المؤمنين (ع) لما عزموا على بيعة عثمان: «لقد علمتم أني أحق الناس بها من غيري، ووالله لأُسلِّمنَّ ما سلمت امور المسلمين، ولم يكن فيها جور إلا علي خاصة، التماسا لأجر ذلك وفضله، وزهدا فيما تنافستموه من زخرفه وزبرجه»
وقال في موضع آخر: “اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان ولا التماس شئ من فضول الحطام، ولكن لنرد المعالم من دينك، ونظهر الإصلاح في بلادك. فيأمن المظلومون من عبادك، وتقام المعطَّلة من حدودك. اللهم إني أول من أناب وسمع”.
لقد أحدث ما حصل إشغال الامة بالصراع على السلطة عن الاهتمام بالرساله وأصبح الاهتمام بالصراع على السلطة الشغل الشاغل للأمة وتحوّل خطير في ثقافة الامة، ولولا هذا السلوك الذي انتهجه أمير المؤمنين ومن بعده أئمة اهل البيت (ع) لانتهى الإسلام، لأن الصراع على السلطة دفع الطامعين أو المتشبثين بها الى استخدام كل السبل لذلك بما فيها قتل المعارضين وفرض التأييد للسلطة وشراء ضمائر المحدّثين لاختلاق الروايات عن رسول الله (ص) طلباً للحصول على شرعية لقب خليفة رسول الله (ص) وتحويل الدين الى أداة لخدمة السلطة بدل ان تكون السلطة في خدمة الدين كما هو المفروض، وهو ما حصل وهو ما تسبب باختراع عقائد تُبرّر تصرفات الحاكم وفقه يضفي على تصرفاته الشرعية وتحرم الخروج عليه وتوجب اطاعته مهما كانت افعاله فاضحة حتى وإن كانت قتلاً لسبط رسول الله عليهما السلام ودسّ السم للإمام الحسن (ع) فضلاً عن قتل الصالحين فقد أفتى شريح القاضي بقتل الامام الحسين (ع).
وهكذا تحوّل الدين ليكون أداة بيد السلطة تتلاعب به وفق أهوائها وأُخرج عن اهدافه كرسالة للبشرية يبتغي إصلاحها وإخراجها من الظلمات الى النور لولا مدرسة أهل البيت (ع) التي وقفت سدّاً منيعاً أمام محاولات السلطة الحثيثة وإن استدعى الامر التدخل المباشر من ائمة اهل البيت والاستشهاد للتصدي لهذه المحاولات والاطاحة بها كما فعل الامام الحسين (ع).
لقد وغلت السلطة الاموية بعيداً في الانحراف ووصل الامر بها أن تُحوّل الخلافة إلى ملك وراثي وأن يكون الخليفة للمسلمين المتجاهر بالفسق والفجور وشرب الخمر وغيره من الامر بالمنكر والنهي عن المنكر واتخاذ الفاسقين حزباً والصالحين حرباً (ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به والى الباطل لا يُتَناهى عنه ليرغب المؤمن في لقاء ربه) موضحا الامام الحسين (ع) مقدار التحول في المجتمع الاسلامي وحالة السكون والموت فيه الذي يُعبّر عن الخطر المحدق بالاسلام استدعى ان يقوم الامام (ع)) بهذه الحركة الاستشهادية بنفسه وأهله وانصاره لإيقاف هذا الانقلاب الذي كاد أن يقضي على الرسالة وأهدافها.
ولقد اتخذ أهل البيت (ع) هذا المسلك منهجاً فلم يُنازعوا على سلطان كما لم يدَّخروا وسعاً في الدفاع عن سلامة الدين وعن وحدة الامة ومصالحها والسعي في مواجهة الفساد وهو ما عبَّر عنه الامام الحسين (ع) في الاعلان عن نهضته قائلا: “إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا ظالماً ولا مُفسداً وإنما خرجت لطلب الاصلاح في أمة جدي، ألا ترون إلى الحق لا يُعمل به والى الباطل لا يُتَناهى عنه، أُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق ومن أنكر علي أصبر حتى يقضي الله بالحق وهو خير الحاكمين”.
لقد أدخل هذا المنهج في الصراع على السلطة الامة في صراعات لا تنتهي قبلية ومذهبية ما زالت تفتك بها حتى اليوم شكلت نقطة الضعف القاتل التي استثمر بها اعداؤها اخرجتها عن أن تكون امة يحترمها العالم فضلاً عن يكون لها القدرة على الاستفادة من موقعها المميز بين الامم وجعلت منها الضحية التي تُستنزف في ثرواتها ومواردها دون أن تتمكن من الاستفادة منها إلى جانب التخلف على كل الصعد حتى في الدفاع عن نفسها وقضاياها ومن اهمها اليوم القضية الفلسطينية، وما المشاهد المروعة التي ترتكب بحق الشعب الفلسطيني خصوصاً في غزة الا دليلا على الضعف والوهن الذي أصابها بل المخزي أن تقف دولها عاجزة حتى عن إصدار موقف جماعي يوقف هذه المجازر فضلاً عن موقف مندد بما يحصل.
كل ذلك بسبب عقلية السلطة والخوف على مكتسبات حكامها وشعوبها التي تحسب ألف حساب للقوى الدولية التي تفرض السيطرة على القرار.
إنّ الخروج من هذا الواقع يتطلب من القوى الفاعلة الخروج عبر طرح متقدم يخلص الامة من انقساماتها بإخراج العامل المذهبي من دائرة الصراع لأن الموضوع المذهبي موضوع إيماني يتعلق بشروط الإيمان والاعتقاد، وهو أمر فردي بين الانسان وربه فليحتفظ كل فرد منا بما يراه، ولكننا في الاجتماع السياسي يجمعنا الإسلام، فالهوية الاجتماعية السياسية لنا قائم على أساس الإسلام وليس على المذهبية وعلى أساس المواطنة وهذا ما نتبناه ونتمسك به، هذا على مستوى وجود مجتمع إسلامي صافٍ، وأما في المجتمعات المتنوعة الطوائف كما في المجتمع اللبناني فالذي يحكم العلاقة بين المسلمين وغيرهم ما يقوله الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) فالمقياس هو التقوى في القرب من الله التي فسَّر رسول الله (ص) المقصود منها في العلاقات الاجتماعية بقوله (ص): “الخلق كلهم عيال الله واحبهم اليه أنفعهم لعياله”.
وهو ما قاله أمير المؤمنين (ع): ” الناس صنفان إما اخٌ لك في الدين أو نظيرٌ لك في الخلق”.
فالمقياس ليس المعيار الطائفي والمذهبي وإنما الكفاءة وخدمة عيال الله سبحانه وتعالى والايمان بكرامة الإنسان وعدم التمييز بينهم على اساس انتمائهم الدينى أو المذهبي والا كانت عنصرية وعصبية التي يقول فيها رسول الله(ص): ” ليس منا من دعا إلى عصبية” هذا هو المعيار الحضاري للإسلام كرامة الانسان (ولقد كرمنا بني آدم).
والمعيار الثاني: هو التقوى بالمعنى الذي حدّده رسول الله (ص) في الكفاءة وتقديم النفع للناس عيال الله، وان التمايز الديني والطائفي لا يعطي تمايزاً في الحقوق والواجبات “فالناس سواسية كأسنان المشط”.
والمؤمنون حين يخاطبهم الله تعالى في قرآنه يُحمّلهم المسؤولية ويدعوهم إلى التزام التقوى والى أن تتطابق افعالهم مع أقوالهم ويعاتبهم على الازدواجية حين يقولون ما لا يفعلون، أما حين يخاطب الناس فهو يخاطبهم بصيغة اللطف والرحمة.
لقد تعاطى أهل بيت الرسالة (ع) وفقاً لهذه المعايير وهي التي كانت منطلقهم في مواقفهم ومنهم الامام الحسين (ع) في ثورته العظيمة على الانحراف والفساد وتحويل افراد المجتمع إلى عبيد، وهو ما جعل من التقاهم في طريقه إلى كربلاء يقتنعون به وينضمون إلى صف المقاتلين معه، وكان منهم من المسلمين من انتمى إلى غير أهل البيت سياسياً ومذهبياً كزهير بن القين والمسيحي كوهب بن عبدالله الكلبي، فثَبَتوا إلى جانبه بعد أن خذله الناس يقاتلون معه بشراسة ويطلبون الشهادة بين يديه حيث يصفهم الامام الحسين (ع) بعد ان سألته العقيلة زينب عن مدى اخلاصهم حتى لا يخذلوه او يسلموه في المعركة فيقول (ع) فيهم: “والله لقد بلوتهم فما وجدت فيهم الا الاشوس الاقعس يستأنسون بالمنية دوني استأناس الطفل إلى محالب أمه”.
من هنا ندعو المسلمين إلى تجاوز عقدة التفكير المذهبي الذي كان علة مصائبهم وتخلفهم والارتقاء بتفكيرهم إلى رحاب الاسلام الجامع، إلى رحاب الامة كما أمر الله تعالى، فالاسلام على كلمة الا إله الا الله محمد رسول الله التي من قالها فهو مسلم حرم ماله ودمه وعرضه التي استبدلها المسلمون بشروط مذهبهم ولم يفرقوا بين الإيمان والإسلام، الإيمان الذي هو مسؤولية فردية بين الانسان وربه، وبين الإسلام الذي عليه التعامل بينهم، حيث تم الخلط بينهما وأُدخلوا الامة في نفق مظلم من الفتن المذهبية والحروب الداخلية التي كادت لولا لطف الله تعالى أن تقضي عليها، لقد أدرك اعداء الامة خطورة التقارب بين المسلمين على مصالحهم ولهذا يستفزهم أن يروا وحدة الموقف بينهم كما هو الحال في التعاطي مع القضية الفلسطينية ويجهدوا في اثارة الاختلافات المذهبية وهي نفس السياسة المُتّبعة في التعاطي مع الساحة اللبنانية حيث يدرك الجميع ويقرّ بالمباشر او بغير المباشر بأن الطائفية هي علة العلل في كل ما يعانيه من فشل في بناء الدولة وفي خدمة شعبه والدفاع عن سيادته، وكانت هذه الذهنية التي استحكمت في نفوس اللبنانيين سبباً في كل ما يعانيه من انقسامات سياسية واقتصادية وثقافية واجتماعية خطيرة ومن طروحات جهنمية وصلت ببعض القوى السياسية الطائفية الى الدعوة الى التقسيم العلني تارةً والمغلف بالفيدرالية أخرى في الذهاب المتطرف الى ما هو أبعد من الطائفية السياسية والتماهي مع العدو في إعلان العداء للمقاومة وعدم الاكتراث لما يعانيه الجنوب اللبناني من اعتداءات صهيونية بل الدعوة الى التطبيع مع العدو الإسرائيلي.
ولذلك فإنه لا سبيل للإبقاء على لبنان إلا بتجاوز هذه الذهنية الطائفية إلى رحاب دولة المواطنة، التي وحدها تحفظ الطوائف بدلاً من الطائفية التي لم تصنع وطناً ولم تحافظ على الطوائف.