العفن المتفشي
العفَن المتفشّي.
د. بطرس روحانا خاص – الحوارنيوز
للطبيعة أنظمة وقوانين جدليّة تتحكّم بكيفية تفاعلها مع المتغيّرات الذاتية، ومع الأخرى العدوانية بمعظمها من فعل البشر؛ والتي جلّها "ضدّ الطبيعة" أي ضدّ تلك الأنظمة والقوانين العضوية المذكورة أعلاه.
أزعم أنّ الطبيعة تردّ على عدوانيّة البشر بأنظمة وقوانين معدَّلة قد تصل إلى العدائيةِ الشعواء. إذ ليس المنطقُ الفيزيائي هنا هو ذاته ولا نظام الفعل والأدوات.
إن تمادي البشر في اعتدادهم بـ"تفوّقهم" المزعوم على جَذرهم، أي على أمِّهِم الطبيعة، يحوّل ذلك التفوّقَ الذي في مقام الجزء، إلى جزء منفصل عن الكل وغالباً إلى نقيض له. إلى عدوان. فيكون الفعلُ في هذه الحال تهافتاً مدمّراً للبشريّ ودفعاً للطبيعة كي تكتشفَ بذاتها ما يحميها عبر التعديل المناسب لقوانينها.
في تلك الصيرورة التراجيدية، يتفتّت الذهنُ البشري إلى أجزاء؛ فيزيد عناداً وبالتالي بلاهة. في المقابل، يشتدُّ لدى الطبيعة نظامُها الدفاعي، ويُشحذُ منطقُه الجدلي، الفيزيائي.
همروجة الميديا والإعلام المفتوحة تُجسّدُ في أكثرها هولَ العَفَن الأخلاقي والمعرفي والقيَمي الذي لا ينفكّ يتفشّى عندنا وعند سوانا من المجتمعات والبشر في كامل القطاعات من دون استثناء. أصبح خداع المتلقّين بنوع البضاعة المطروحة للبيع وقيمتها الفعلية كشربة ماء.
المتلقّي يشتري البضاعة المطروحة عليه بصفته زبوناً مستهلِكاً بامتياز؛ مستقوياً بما اجتمع لديه من شذرات معرفة، أي بالأجزاء المضلّل فحسب، التي لا ينفع للاستدلال بها على الكل إلاّ عبر المقارنة بما الزبون أو بما سبق ورأى وسمع وقرأ من دعاياتٍ ترويجية مبرمجة عالقياس. فيكون بذلك قد فتّت مراجعَه الضحلة أصلاً وازادت البضاعة المطروحة للبيع تشوّها، وأمّن الزبون لنفسه منطقاً ملتوياً يساعده على المواجهة العنيفة مع الرأي الآخر أو المقابلة المستخفّة الساخرة بأصحاب التقييم المختلف أو المغاير. هذا يذكّرني بملهاة "خادم سيّدين" لغولدوني
يأتيك مثلاً صاحب مقام فيرجع في الذكر والدعوات إلى أسماء ذات مراجِع وقيمة، مثبتَين في العلم والتاريخ والممارسة، وأخرى يستجلبها وينفخها من خارج المقامات المعتبَرة كلّها؛ فيرصفها في المقعد الواحد نفسه ويكلّفها بالمهام الواحدة نفسها. نفاق وبلاهة فحسب.
يأتيك مثلاً أصحاب باع في "الشخبطة الدرامية"، فيبيعون غلاف البضاعة وهم يدركون تماماً أنّ الشّارين "سيدفعون" ثمن الكل من سعر الغلاف، أي الجزء. فالمروّجون و"المأخوذون" زوراً أم هبلاً جاهزون في الصالات والمعارض وصفحات الميديا والإعلام لهذا الغرض.
هذه ثقافة. نعم ثقافة. ضحلة صحيح. جاهلة صحيح. مدّعية صحيح. مؤسَّسة على معارفَ من طبيعتِها نفسِها ومشغولة على نفس المنوال، ومعقودة على كتلة واسعة من الزبائن ذوي ميلٍ سَلِس إلى التلقّي من دون مجهود. أريَح ما هيك؟ والأنكى، إنّو ما يقوم به من كسل، ليس تعويضاً عن مجهود هو أهلُ له، إنما مجهود جزئي فعلاً؛ يمكن نعتُه صراحةً ومباشرةً بالكسل المرَضيّ. العالم مصاب بالعفَن.