العرب بين القمم والهمم
ما عاد العربي بشكل عام يثق بالقمم، ذلك أنها اما تُبقي قراراتها حبرا على ورق، أو تُشرِّع اجتياحات وغزوات دولية لبلادنا. وتفيد الاحصائيات الموثوقة، أنه، بعيدا عن الأبواق التي تمدح أو تشتم المجتمعين، فان القمم لا تلاقي أي اهتمام من قبل الجمهور العربي عبر وسائل الاعلام. ولعل أبيخ مسلسل في شهر رمضان يحصل على نسبة مشاهدة اعلى من افضل قمة.
ما السبب؟
يُمكن القول بلا أي مغالاة، ان قضية فلسطين، هي التي أفرغت القمم العربية من مضمونها. ذلك أن هذه القضية التي بقيت أكثر من ٧٠ عاما الموضوع الثابت في القمم، كانت وما زالت تتعرض للتلاشي مع كل قمة، فالكلام الممجوج حول التمسك بالقرارات الدولية وبأن القدس عاصمة فلسطين وبضرورة العودة الى حدود ١٩٦٧، بقيت جميعها حبرا على ورق. كما أن كل الخلافات التي عاشتها القمم تمحورت حول فلسطين، ومعظم الانقسام العربي في القمم حصل بسبب جوهرة القضايا التي أدى عدم حلها الى تدمير العديد من الدول العربية واستمرار بحور الدماء والدمار والدموع في منطقتنا وسط نوم الضمير العالمي كليا.
الآن، ومع ظهور الشبح الذي لا نعرف عنه شيئا والمسمى " صفقة القرن"، ومع القرارات الهوجاء لدونالد ترامب ذات البعد الإنجيلي الجديد ( حول وجوب قيام الهيكل في القدس لعودة السيد المسيح) والمنسجمة تماما مع الفكرة الصهيونية ، فقدت القمم العربية أي اهتمام، ذلك أن تركيز هجومها على إيران، ومهما كانت مبرراته ( المشروعة او المختلقة)، لا يُشكل عامل جذب عند الجمهور العربي، فحلفاء إيران الذين يتعرضون هم أيضا للهجوم كحزب الله وكتائب عزالدين الدين القسام وسرايا القدس مرورا بالحشد الشعبي والحوثيين، يرجّعون صدى الضمير العربي لجهة مقاومة إسرائيل، أكثر من معظم الحكام العرب. ثم أن تزامن القمم العربية والإسلامية الأخيرة مع يوم القدس العالمي كان لافتا بتناقضه، بين كلام القمم، وهمم المتظاهرين لأجل فلسطين( وبينهم غلاة القوميين العرب والناصريين الذين اجتمعوا في بيروت يوم السبت، وهم ليسوا من اتباع ايران ولا فُرسا)
لا شك ان دولا عربية كثيرة وفي مقدمها الخليجية، قد ساهمت كثيرا في تمويل الفلسطينيين. ففي الكويت بُنيت اللبنات الاولى لحركة فتح مع الشهيدين أبي عمّار وأبي جهاد ومع ظهور نشرة " فلسطيننا" أواخر الخمسينيات. ومن السعودية والكويت ثم لاحقا قطر حصل الفلسطينيون على الكثير من المساعدات، لكن هذه المساعدات بدت وكأنها تريد التعويض عن الدعم العسكري والسياسي الفعليين اللذين كان الفلسطينيون يحصلون عليهما من دول عربية أخرى مثل لبنان وسوريا والجزائر والعراق وليبيا وغيرها بعد خروج مصر من منطق المواجهة في اعقاب اتفاقية كامب دافيد.
حاليا، يُمكن الحديث عن غربة فعلية بين القمم العربية وبين الرأي العام العربي. فبعض القمم ساهم في تشريع الاجتياحات الدولية للعراق وليبيا أو في تعزيز الروابط السورية الايرانية بعد ابعاد سوريا عن مقعدها، أو في تدمير اليمن في حرب لا ندري كيف ستنتهي وما هي جدواها فعلا…الخ).
تكمن الغربة بين القمم والرأي العام العربي، في أن هذه القمم توحي بأنها تسير صوب التطبيع المجاني مع إسرائيل وانهاء القضية الفلسطينية ( هذا هو الشعوب العربي حيالها حتى لو لم تسر)، بينما قلب الرأي العام العربي لا يزال ينبض على قلب القضية الفلسطينية والدول الداعمة لها. ليس غريبا مثلا أن يقول لك جزائري اليوم:" والله إن الكفر في رمضان قد يكون اسهل علينا من التطبيع"، أو أن يوقفك مغربي أو موريتاني أو تونسي ليقول لك:" نحن مع المقاومة بعيدا عن هذا الغباء في الحديث عن فتنة سنية شيعية”، لا بل ليس غريبا ان يقول لك ليبي وفيما تُدمر بلاده بالفتن الداخلية والتدخلات العربية والإقليمية والدولي بان " فلسطين لا تزال قضيتنا الاولى وسوريا بوصلة عروبتنا"، ناهيك عن رفع الحوثيين والحشد الشعبي وغيرهم رايات فلسطين في كل تظاهرة.
قد يقول قائل، ان إيران وحلفاءها يجعلون من فلسطين " شمّاعة" لتمدد الايراني في المحيط العربي، ويصل الأمر بالبعض الى حد اعتبار إيران أكثر خطرا من إسرائيل. ثم يرد أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله بالتهديد ب " محو آل سعود وإسرائيل"، لكن الأكيد وسط هذا الصراع المميت في منطقتنا بين محورين، أن الرأي العام العربي والوجدان العربي وقلوب العرب متعلقة بمن يدافع عن فلسطين ويقاوم أكثر من تعلقهم بمن يحكي عنها علنا ويفاوض سرا في سياق صفقة القرن.
لن تكون إسرائيل صديقة لعربي وعدوة لعربي آخر. نحن كلنا أعداء بالنسبة لها مهما زيّنت التقارب مع هذه الدولة أو تلك. فهي حتى الدول التي وقّعت معها اتفاقيات سلام مثل الأردن لا تزال تعمل لتحويلها الى وطن بديل أو الى ساحات لتوطين الفلسطينيين بعد تهجيرهم المقبل والحتمي من الضفة الغربية (يمكن مراجعة كتب نتنياهو على سبيل المثال لنعرف حقيقة هذا التفكير العنصري الدموي). فالسعودية ومصر هي تماما كالعراق وسوريا ولبنان مشمولة في وثائق التقسيم الإسرائيلية (راجع محاضرة آفي ديختر مثلا).
بناء على ذلك، وطالما ان إسرائيل تمارس أسوا أنواع العنصرية والقتل بدم بارد والتهجير وإقامة شريان المستعمرات والتهويد، وطالما أنها تحلم مع راعيتها اميركا بتمرير صفقة القرن على دم الفلسطينيين وفوق كرامة كل عربي ومسلم ومسيحي في هذا الشرق، وطالما ان اتفاقيات السلام لم تحم شجرة زيتون واحدة، فان الرأي العام العربي سيبقى اكثر ميلا الى أصحاب الهمم من المقاومين مقابل أصحاب القمم…
ليست المشكلة في ان بعض العرب يعتبرون إيران وحلفاءها أعداء وان يقدموا مبررات حول ما يصفونه بالتدخل وبالخطر الايرانيين على المنطقة (هم احرار في خصومتهم مع ايران) لكن المشكلة في أن يتذرعوا بهذا العداء، للذهاب صوب اعتبار إسرائيل صديقة…
لو رفعت القمم شعار مقاومة محتل أرضنا وقاتل شعوبنا، لسارت الشعوب العربية قاطبة خلف القمم واصحابها بمن فيهم أولئك السائرون خلف إيران. فليس كل مؤمن بحق الشعب الفلسطيني وبمقاومة إسرائيل وبرفض تدمير الدول العربية، فارسيا وصفويا وايرانيا ومريدا للولي الفقيه. أما ان تبقى تحكي عن فلسطين وتتركها تضيع، فان القسم الأكبر من الشعوب العربية هي في وجهة أخرى تماما. هذا هو الفرق بين القمم والهمم. لا تسألوا حزب الله وحماس والجهاد والفلسطينيين، اسالوا الجزائري والموريتاني والمغربي والليبي واليمني والتونسي والسوداني وحتى ابن جزر القمر، فالعمق السني العربي والعمق المسيحي العربي والعمق العربي غير المؤمن بالطوائف ليسوا اقل رغبة في مقاومة إسرائيل من العمق الشيعي وغيره. كفانا ضحكا على أنفسنا.