حروبسياسةصحف

الضاحية: إرادة الحياة والرفض في مواجهة البرابرة(خليل فضل عثمان)

 

الحوار نيوز – صحافة 

تحت هذا العنوان كتب خليل فضل عثمان في صحيفة الأخبار اليوم:

“وعادت بغداد بعدما كانت آنس المدن كلّها كأنّها خرابٌ ليس فيها إلّا القليل من الناس، وهُمْ في خوفٍ وجوعٍ وذِلَّةٍ وقِلَّة” (الحافظ ابن كثير، البداية والنهاية، الجزء الثالث عشر)

وكيف لا يعتصر الألم قلبك؟ وكيف لا يغوص قلبك في أحشائك، وأنت تعاين مشاهد الدمار الذي تعيثه آلة القتل والإبادة الجهنمية في ضاحية بيروت الجنوبية؟ وكيف ترى صوراً من كل هذا الجنون والمصائر السود التي يريدها البرابرةُ الجدد لك ولأهلك ولا تزداد إيماناً ويقيناً بأنّ الحديد لا يفلّه سوى الحديد؟ وكيف ترى مجرمي آخر الزمان يعملون على جعل مرابع طفولتك وصباك في «ساحة المنشية» في برج البراجنة غيرَ صالحةٍ للحياة ولا تستيقظ في وجدانك الذكريات وتتشبّث بالحياة الحرّة الكريمة مهما غلا الثمن وبلغت القرابين والتضحيات؟
وَسْط ضجيج آلة الجنون يتناهى إليك صوت الشاعر التشيلي بابلو نيرودا (1904-1973) وهو يصرخ: «تعالوا وانظروا الدماء تسيل في شوارعنا». تنهار أبنية الضاحية تحت وطأة نيران الحرب البربريّة، تُجِيل نظرك في ما خلّفته من خراب، فينبعث مما انطمر تحت أنقاضها من ذكرياتٍ وسِيَر حياة، ما يشعل ذاكرة تاريخيّةً استوت على معاني الثورة والرفض والمقاومة متناً أساسياً في ساحل المتن الجنوبي.
ما لا يفهمه برابرة آخر الزمان، ومَنْ يُغطّون عدوانهم ويمدّونه بأدوات القتل والدمار، ومَنْ يتواطأ مع العدوان أو يرقى صمته إلى التواطؤ، أنّهم كلّما أوغلوا في إجرامهم في الضاحية، كلما استدعوا ما تتكئ عليه الضاحية من تاريخٍ من الرفض والمقاومة والعنفوان. تتلقّى الضاحية قنابلَ البرابرة بصدرها اليوم، تتراكم أنقاض أبنيتها المقصوفة، تنزف من دماء ودموع وأشلاء أبنائها وبناتها وأطفالها، رجالها ونسائها، شيبها وشبانها وشاباتها، أحرارها وحرائرها، ولكنَّ وعيها يبقى عصيّاً على الكيّ، ويظلّ مشدوداً إلى خزينٍ من الذاكرة يحوي فصولاً ومحطّاتٍ فارقةً في المقاومة والثورة والرفض. يحضرني من بين ما يحضرني هنا ما وقر في الموروث الشعبي عن المواجهة بين أهل برج البراجنة وجيش الأمير فخر الدين الثاني المعني (980-1044 هـ/1572-1635 م)، عندما هبّوا استجابةً لصرخة إحدى نساء القرية بعدما لطمها مملوكٌ أسود من مماليك الأمير لاستنكارها انتهاكَه حرمة أموات القرية بمروره راكباً على فرسه في مقبرتها طالبةً منه الترجّل. قتل أهل البرج المملوك ورموا جثّته في بئرٍ عرفت منذ ذلك الحين باسم «بئر العبد» ليحاصرهم الأمير بعد ذلك ويجليهم عن منازلهم في ما يعرف الآن باسم حي الليلكي والمريجة إلى المنطقة التي تُعرَف حالياً باسم برج البراجنة. صحيحٌ أنَّ المصادر التاريخيّة لا تسعفنا في فهم الكثير عن هذه المواجهة وأسبابها، فنحن لا نعرف حتّى إلى أيّ مدى تتداخل في المرويّة الرائجة حول هذه الواقعةِ الحقيقةُ بما نسجته الذاكرة الجمعيّة لمجتمعٍ فلاحيٍّ من أساطير، كما نجهل ما إذا كانت المواجهة عنواناً لانتفاضةٍ فلّاحيّةٍ استمدّت مُسبِّباتها مما أثقل كاهل فلّاحي المنطقة من ضرائب، أم مجرّد فزعةٍ دفاعاً عن الشرف المُستباح، ولكن، وكائناً ما كان الحال، تظلّ معاني الثورة والرفض والتمرّد في وجه جبروت السلطة والقوّة الغاشمة أبرز ما يطبع هذه الصفحة من تاريخ المنطقة وموروثها. وقفة برج البراجنة في وجه الأمير الجائر هي ثورةٌ و»وقفة عزٍّ»، على حدِّ قول أنطون سعادة، لا تكون الحياةُ من دونها حياةً.
معاني الثورة والتمرّد والمقاومة تظلّ تطالعك في الكثير من المحطّات في تاريخ الضاحية، التي شهدت تخومها في خلدة والمطار عام 1982 معركةً أوقف فيها مقاتلون لبنانيّون وفلسطينيّون، كان من بينهم ثلّةٌ من أبناء الضاحية وسكّانها، جحافلَ الغزو الإسرائيلي لأسابيعَ على مشارف بيروت، لتتشكّل من صفوف المشاركين في هذه المواجهة بعضُ أمشاج النواة الأولى للمقاومة الإسلاميّة اللبنانيّة. وليس من المبالغة القول بأنّ هذه المعاني يزخر بها تاريخ كلّ بلدات الضاحية وأحيائها. خُذ مثلاً «حيّ المنشية» في برج البراجنة، الذي تعرّض قبل أيامٍ لقصفٍ جويٍّ همجيٍّ مُدمِّرٍ أتى على مربّعٍ سكنيٍّ كاملٍ منه، وعاث خراباً في دائرةٍ قطرها مئات الأمتار حوله. في هذا الحيّ، الذي وُلِدتُ وترعرت فيه، أبصر الشهيد عبد الكريم الخليل (1884-1915)، أحد روّاد فكرة القوميّة العربيّة وحركتها، النور، وتحديداً في بيت جدّه لأمّه الحاج قاسم خازم. وهناك أيضاً تقع الأرض التي باعتها أمه فضّة خازم وقدّمت ثمنها له ليشتري به السلاح في إطار إعداده لثورة مسلّحة كان يخطط لإشعالها انطلاقاً من صيدا. وفي مسجد المنشيّة، المعروف حالياً باسم «مسجد أمير المؤمنين»، عقد عبد الكريم اجتماعاً ضمّ حشداً من رجال البرج قُدِّر بأكثر من مائة شخص. دعاهم يومها إلى حمل السلاح، زافاً إليهم البشرى: «واعلَموا أنّ لكم إخواناً كثيرين بالقرب منكم، في بيروت والشيّاح والغبيري، سيحملونَ السلاحَ مِثلكم». وبعد عقودٍ، في أواسط السبعينيّات، سيؤمّ الصلاة في هذا المسجد الشيخ محمد الصادقي الطهراني (1926-2011)، المعارض اللدود لنظام الشاه، وسيقف على منبره متّكئاً على بندقيّة كلاشينكوف وهو يلقي خطب الجمعة العابقة بمعاني الثورة وفلسطين والكفاح المسلّح. ومن بين مريدي الشيخ الصادقي، وبجهود الشهيد محمد صالح الحسيني (1940-1981)، الثائر الإسلامي الأممي الذي لا يهدأ القادم من النجف مُطارَداً من نظام البعث، ستنبثق النواة الأولى لـ»لجان العمل الإسلامي»، التي ستشكّل إطاراً تنظيمياً ينضوي فيه الخمينيّون الأوائل في لبنان، مُبشِّرين بالكفاح المسلّح طريقاً لتحرير فلسطين والتحرّر الوطني، وبوعود ثورةٍ إسلاميّةٍ كانت في بطن الغيب، وبروح الله الخميني (1902-1989) مرجعاً وقائداً وولياً للفقيه ووتداً من أوتاد العرفان، قبل أنْ يطرق اسمه أسماع الكثيرين، ناهيك بأنْ يملأ الدنيا ويشغل الناس مع اشتداد عود الثورة في إيران.
ومن بيته في المربّع السكنيّ الذي طحنته آلة الموت والدمار في «حيّ المنشيّة» أخيراً سيخرج الشهيد عبد الحفيظ علامة ليشارك في الثورة المسلّحة التي قام بها الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعيّ في تموز 1949، وعُرِفَت باسم «الثورة القوميّة الاجتماعيّة الأولى»، وهي المشاركة التي أُعدِم على خلفيتها، ليرتبط اسمه منذ ذلك الحين باسم أنطون سعادة.
كلّ هذه الشواهد، وغيرها الكثير مما لا يتّسع المقام لذكره، تنبئنا بغنى المشارب والأطر الفكريّة والأيديولوجيّة التي احتوت روح النضال والتمرّد والرفض في الضاحية، حاضنة الفقراء والبسطاء والثوار. وعلى تنوّع هذه الاتجاهات، فإنّ ثمة قواسمَ مشتركةً بينها تتجلّى في رفض ما أنتجته مباضع سايكس ــ بيكو من تجزئة، والبحث عن هُويّةٍ تتجاوز حدود الكيانات المُصطَنَعة، ورفض الخضوع والإخضاع، والتطلّع إلى غدٍ أفضل، هو في جوهره واحد، غد يرفل بالعدل الاجتماعي والتحرّر، كائناً ما كانت الشعارات التي عملت الأيديولوجيّات المختلفة على قَوْلَبَته فيها.
شخصيًّا، عايشت هذا الجوَّ العابقَ براديكاليّة الثورة وقِيَمها وجَدَل الأيديولوجيّات عندما كنت طالباً في ثانويّة برج البراجنة، المعروفة حاليًا بـ»ثانوية حسين علي ناصر» في أواخر السبعينيّات ومطالع الثمانينيّات. لم تكن أفواهنا، نحن الطلبة، تعرف الصمت. كانت تصدح دوماً بشعارات الوحدة، والتحرير، والثورة، والعدل الاجتماعي، وغيرها. لم نكن نكلّ ولا نتعب ولا نملّ من التظاهر والهتاف: بعضنا لعبد الناصر ولاءاته الثلاث، أو لتشي غيفارا وكوبا الثورة وحرب الشعب، أو لموسى الصدر في دفاعه عن قضية المحرومين والمُهمّشين في وطنهم، أو للخميني في ثورته، وهلمّ جرّا، ولكنّ الهتاف الجامع كان لفلسطين، قِبلة النضال والمقاومة والتحرير.
بين الضاحية وفلسطين قصّة حبٍّ امتزجت بالقهر والثورة والأمل. إثر نكبة عام 1948، فتحت الضاحية ذراعَيْها وبيوت أهلها لاحتضان إخوانهم الفلسطينيّين الذين أُخرِجوا عنوةً من ديارهم، فأقيمت فيها ثلاثة مخيّماتٍ للاجئين الفلسطينيّين هي برج البراجنة وصبرا وشاتيلا. وعلى مرّ السنين وتعاقب الأجيال، كانت العلاقة بين أهل الضاحية وضيوفهم الفلسطينيّين محكومةً بمقتضيات العيش الواحد، رغم ما شابَها أحياناً من توتُّراتٍ أفرزتها أحابيل التنافس السياسي، الإقليمي والحزبي والفصائلي. في بوتقة العيش الواحد نشأت بين سكّان الضاحية وضيوفهم الفلسطينيّين صلاتٌ وثقى: تبدأ بالتزاوج والتصاهر وتَشاطُرِ الأطفال مرابعَ اللعب ومقاعدَ الدراسة، ولا تنتهي بتشابك الأيدي والبنادق في ساحات النضال الحزبيّ والمقاومة. وأسدى الضيوف الفلسطينيّون خدماتٍ جلّى لمضيفيهم. عرفنا منهم أطباء يداوون مرضانا (مَنْ مِن أبناء جيلي في برج البراجنة لم تسعفه في مرضه وصفةٌ من المرحومَيْن الدكتور حنّا خوري والدكتور عبد الله لاما أو لم يذق وخزة إبرة الممرّض صبري؟) ومدرّسين يفتحون لنا أبواباً من العلم والمعرفة (أذكر من المُدرِّسِين الفلسطينيِّين الذين درّسوني هَلا ميّاسي، وعلي عيسى، وسميح شاهين). ولعلّ الأهمّ من زاوية الاجتماع السياسي هي المؤثّرات المُتبادَلة في مضمار العمل الحزبي والأفكار السياسيّة. فالكثيرون من الفلسطينيّين الذين سكنوا في الضاحية انتموا إلى أحزاب سياسيّةٍ لبنانيّة، وحقّقوا، في هذا السياق، حضوراً لافتاً في صفوف الحزب السوريّ القوميّ الاجتماعي. وفي المقابل، شكّلت فصائلُ المقاومة الفلسطينيّة قُطباً جاذباً للكثيرين من شبّان المنطقة المهجوسين بهمّ فلسطين وآمال التحرير، والمأخوذين برومانسية الثورة وطهرانيّة النضال الثوري، والمفتونين بأطروحات الكفاح المسلح. في الضاحية، حيث تروم آلةُ الموت والدمار البربرية نحرَنا كما تنحَر أهلنا في فلسطين، ونتقاسم مع أبنائها الساكنين بيننا لقمة الخبز ومشاعر المظلومية والآمال المنشودة، قلّما تجد عائلةً أو حياً أو زقاقاً أو زاروباً لم يجُدْ بشهيدٍ أو جريحٍ أو أكثر على درب فلسطين. في الضاحية، تتربى على حبّ فلسطين، تعيش فلسطين في قلبك كل يوم، تجري في جسدك مجرى الدم في العروق. القهر واحد، والظلم واحد، والدم واحد، واليقين بقدوم يوم انتصار العدالة والتحرير وزوال الظلم والاحتلال واحد. ولهذا كلّه السيل واحد، والطوفان واحد.
في الكتابة عن الضاحية وسط جنون آلة الموت والإخضاع، أكتب عن الثورة والثوار، والمناضلين والنضال، أكتب عن المقاومة والمستمسكين بالبندقيّة، عروة المقاومة الوثقى، وبالتحدّي والرفض اللذَيْن لا يغادران قلوب المظلومين، والمضطهدين، والحفاة، والجياع، أكتب عن الجلال والأمل بالنصر والتحرير اللذَيْن نكفّن بهما أجساد شهدائنا. لذلك أمتشق قلمي ومحبرتي، التي فاضت بدموع أهلي وأحبتي، وأخطّ كلماتي، ناراً تحرق البرابرة، وأردّد مع مظفّر النواب (1934-2022): «لا خوف ما دمنا ننبض، والأفضلون منّا يحملون السلاح».
* كاتب عربي

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى