بقلم د.أسامة مشيمش – الحوارنيوز
تُعدّ بلاد الشّام من أهم المواقع الجيوسياسيّة في العالم. وتاريخيًّا سعت الدّول والممالك شرقًا وغربًا من أجل السّيطرة على شرق البحر المتوسّط الّذي يشكّل أهمّ طريق تجاريّة بحريّة مختصرة ما بين الشرق والغرب. لذلك، فإنّ هذه المنطقة لم تسلم من الحروب منذ قيام الحضارات الكنعانيّة والآراميّة وحتّى اليوم.
فبحسب العديد من القراءات التّاريخية ابتدأ الصّراع على ساحل بلاد الشّام مع محاولات الدّول القديمة المتتالية: البابليّة الأولى والآشوريّة والبابليّة الثّانية، للسيطرة على منطقة بلاد الشام في مواجهة الفراعنة وغيرهم. وهذا ما جعلها عرضة للتنافس بين القوى التي كانت تنشأ في هذه النّطاقات الجيوسياسيّة، والّتي كان دورها محوريًّا في العلاقات الدّولية وصراعات القوى العظمى. ومع تطوّر الحقب التّاريخيّة، امتدّ الصّراع على المنطقة ما بين الفرس والرّوم حتّى مجيء الفتوحات العربيّة الإسلامية، وكذلك لم تخرج الحملات الصّليبية عن محاولات السّيطرة على بلاد الشام، وباءت محاولاتهم بالفشل، فلم يتمكّنوا من بسط سيطرتهم الكاملة على بلاد الشّام.
وفي الواقع، لم تكن الحملات الصّليبية في الأساس سوى حملات نهب وسرقة لكنوز الشّرق. وبحسب عبد الملك: “قامت الحملات الصّليبية لأسبابٍ سياسيّة واقتصاديّة، وإن كانت تستّرت بالدّين وتستّرت خلف القدس”. والأمر نفسه، ينطبق اليوم على الوجود الصّهيوني في فلسطين، والذي هدفه السيطرة على المنطقة العربية وبالتالي السّيطرة على كنوز الشرق “البترول والغاز” وخطوط التّجارة، وأهمها خطوط نقل النّفط ما بين الخليج العربيّ وأوروبا، وإذا ذهبنا أبعد من ذلك نستطيع القول: “إنّ الصّراع على فلسطين ليس صراعًا على الأرض والثّروات أو الموقع الاستراتيجيّ فحسب، بل هو صراعٌ حضاريٌّ شامل له جوانبه وأبعاده العقائديّة والثّقافيّة والاستراتيجيّة العسكريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة. هذه الأبعاد هي منشأ فكرة مركزيّة فلسطين في الصّراع الاستراتيجيّ الإقليميّ والدّولي والحضاريّ الرّاهن.
ضمن هذا السّياق يبرز موقع فلسطين في الصّراع التّاريخي مع الغرب وصولاً إلى تداعيات المنعطف التّاريخي الفاصل راهنًا، وعبورًا إلى مستقبل الأمّة وفلسطين في الآتي من الزّمن. وللوقوف على دور الغرب التّاريخي في الصّراع على فلسطين لا بدّ من أن نوضح بدايةً ماذا نعني بالغرب؟
ليس من السّهل أن نقدّم تعريفًا دقيقًا للغرب من دون البحث في التّجربة التّاريخيّة ومجموعة القوى والعناصر المتحوّلة والثّابتة الّتي تكوّن منظومةً اسمها “الغرب”. وليس من الصّحيح اختزال الغرب في مدلولٍ جغرافيٍّ يتمثّل في مثلّث تحيط أضلاعه بنصف الكرة الشّماليّ حيث أوروبّا الغربيّة واليابان والولايات المتحدة، كما أنّ اختزال الغرب في الرأسماليّة فقط كما هو شائع لدى الكثيرين فيه مغالطة تاريخيّة كبيرة تعني أنّ ما حدث قبل ميلاد الرّأسماليّة لم يعد يخصّ الغرب، وفي الوقت ذاته لا يمكن اختزال الغرب في زاوية الفلسفة بأنّه التّنوير والحداثة، ولا في زاوية العرق وعدّه الرّجل الأبيض، ولا في زاوية الدّين وعدّه المسيحيّة.
الغرب هو هذه الأمور كلّها مجتمعةً. وهذه الأمور هي الّتي جعلت منه في الوقت الحاليّ فكرةً إيديولوجيّةً أكثر منها جغرافيّة؛ إذ يمكن اختزاله، مهما تعدّدت أضلاعه إلى شكلٍ ذي ثلاثة أبعاد رئيسةٍ، بأنّه “هيليني – مسيحي – يهودي”؛ أي مزيجٌ بين الإغريقيّة والرّومانيّة والمسيحيّة البروتستانتيّة الّتي أضافت بدورها إلى هذا المزيج بعدًا توراتيًّا جعل من اليهوديّة إحدى العناصر الأساسيّة في المركّب الحضاريّ للغرب. وحين تكون اليهوديّة والمسيحيّة من المكوّنات الإيديولوجيّة الأساسيّة للغرب، فمن الطّبيعيّ القول إنّ الصّدام بين الغرب والأمّة قديمٌ قدم الإسلام الّذي هو جوهر شخصيّة الأمّة وهويّتها الحضارية.
فالهجمة الصّليبيّة الّتي أطلقت الكنيسة شرارتها في أواخر القرن الحادي عشر الميلادي لتحرير بيت المقدس من المسلمين بنداء البابا “أوريان الثّاني “فلينهض الغرب لنجدة إخوانه المسيحيّين في الشّرق”، مثّلت المحطة الأبرز لتورّط الغرب الأوروبيّ في الزّحف الاستعماريّ نحو المشرق الإسلاميّ لاحتلاله، وإخضاعه، بوصفه كيانًا حضاريَّا دينيًّا ثمّ جغرافيًّا سياسيًّا. وعلى مدار القرون الأربعة الأخيرة تعرض العالم الإسلاميّ لهجمةٍ غربيّة من قبل قوى استعماريّةٍ مختلفةٍ، ظهرت ثمارها في الهجمة المعاصرة التي لا تزال مستمرّةً حتّى اللّحظة الراهنة.
وقد ظلّ الوطن الإسلاميّ هدفًا للاستراتيجيّات الغربيّة، والنّظام الدّوليّ على مدار التّاريخ، نظرًا إلى تمتّعه بعددٍ من المزايا:
1- جغرافيًّا: يشكّل الوطن الإسلاميّ كيانًا قاريًّا يتجاوز في أهمّيّته الجيوبوليتيكية الكيانات الدّولية الأخرى للقوى العظمى، الولايات المتّحدة، روسيا، الصّين، بريطانيا، فرنسا. فهذه القوى تمتدّ على مدى قاريّ أحاديّ البعد، في حين يشكّل الوطن الإسلاميّ حزامًا يمسك بخصر العالم القديم حيث الموقع المتاخم لأوروبا والمرتبط بأفريقيا والممتدّ في عمق آسيا.
2- اقتصاديّاً: يملك الوطن الإسلاميّ ثروةً طبيعيّةً واقتصاديّةً هائلةً حيث يحتوي على أضخم ثروةٍ بتروليّةٍ يحوز فيها أكثر من ٦٠ في المائة من مخزون النّفط العالميّ، وغيرها من الثّروات المعدنيّة والزّراعيّة والحيوانيّة، الّتي تشكّل أداة تحَكّمٍ سياسيّة كبيرة لو أحسن استخدامها.
3- عرقيًّا: يشتمل على أعراقٍ قوميّة وإثنيّاتٍ متعدّدة مثل العرب، الأتراك، الفرس. وهذه الأعراق حمل بعضها ميراث حضاراتٍ قديمةٍ عريقةٍ، وتاريخًا يحمل خصوصيّات تفوّقٍ ونبوغٍ.
4- ديمغرافيًّا: يشكّل المسلمون اليوم خمس سكان البشريّة، ويتجاوز وجودهم حدود الرّقعة الجغرافيّة للوطن الإسلاميّ؛ إذ تعيش الأقلّيّات الإسلاميّة التي تعد بعشرات الملايين في أنحاء مختلفة من العالم، وهي أقّليّاتٌ تشكّل كياناتٍ ثقافيّةً حضاريّةً في قلب أوروبا والأمريكيّتين وداخل الحضارات الآسيوية المعاصرة.
5 – الإسلام بوصفه رسالةً عالميّةً خالدةً صنعت من عرب الصّحراء أمّةً عملاقةً، وقدّمت للبشريّة واحدةً من أهمّ الحضارات الّتي عرفها التّاريخ.
6- وأخيرًا، فلسطين الأرض المباركة والمقدّسة، والّتي هي نقطة التقاء القارّات، ومهبط الدّيانات، وصعود الحضارات، وصراع الاستراتيجيّات.
إنّ هذه المزايا من دون شكٍّ يمكن أن تخلق من العالم الإسلاميّ قوّةً عظمى تستطيع التّفوّق على القوى الأخرى، لكن في الواقع جعلت منه هدفًا للأطماع الأجنبيّة الّتي كانت فلسطين ولا تزال مجالاً لأكثرها بشاعةً؛ ألا وهي الأطماع الصهيونيّة الغربيّة.
وإنّ احتضان الغرب للمشروع الصّهيونيّ لا يمثّل تحالفًا بين جسمين منفصلين جمعتهما المصلحة فقط، بل إنّ الحركة الصّهيونية هي نتاج الفكر والمناخ الغربيين، وإنّ تاريخ الصّهيونيّة هو جزءٌ لا يتجزّأ من تاريخ الحضارة الغربيّة. وإذا أردنا أن نرصد دور الغرب في اغتصاب فلسطين وإنشاء الدّولة اليهودية فإننا نسجل الملاحظات الآتية:
1- إنّ اغتصاب فلسطين كان الصّيغة الغربيّة الجديدة لحلّ المسألة اليهودية بعد فشل الحلّ النازي بإبادة اليهود.
2- لقد عكس خروج اليهود من أوروبا لاحتلال فلسطين دورًا بارزًا للمسيحيّة الغربيّة بشقّيها الكاثوليكيّ والبروتستانتي في إقامة الدّولة اليهودية؛ فالصّراع بين اليهود والكاثوليك ونظرة الأخيرين إلى اليهود بوصفهم قتلة المسيح المنحطّين شكّل عامل طرد لليهود من أوروبا على قاعدة الكراهية لهم. أمّا البروتستانتيّة الّتي أنتجت الصّهيونيّة المسيحيّة، فاليهود من وجهة نظرهم هم أداة لخلاص العالم الّذي لن يتحقّق إلّا بعودة اليهود إلى “أرض الميعاد” فلسطين.
3- شكّل الدّين أهمّ عنصرٍ من عناصر التّعبئة الصّهيونيّة؛ إذ ألبست الحركة الصّهيونيّة القداسة لمشروعها أرضًا (أرض الميعاد) وشعبًا (شعب اللّه المختار)، فكانت “الدّولة اليهوديّة” في المشروع الصّهيونيّ وطنًا منحه الرّب يهود العالم. ولم يجر استبعاد الدّين أو الحرب عليه داخل المشروع الصّهيونيّ لا في اختيار موقع الدّولة، أو رموزها، أو نظامها السّياسي الّذي يكفل للأحزاب الدّينيّة المشاركة الكاملة في الحياة السّياسيّة.
٤ – أراد الغرب الّذي احتضن المؤتمر الصّهيونيّ، وأصدر وعد بلفور، وصكّ الانتداب، واعترف بالكيان الصهيوني، أن يحصل على صكّ غفرانٍ من الحركة الصّهيونيّة بشأن مأساة اليهود والمذابح الّتي تعرّضوا لها في أوروبا. لقد اشترى الضّمير الغربيّ صكّ غفرانه بصكّ غفرانٍ منحه مقدّمًا للمشروع الصّهيوني عن كلّ الجرائم الّتي سترتكبها الصّهيونية بحقّ شعب فلسطين. وهذا ما لاحظه المؤرّخ البريطاني “توينبي” حين رأى أن “ليس من العدالة أن يدفع عرب فلسطين ثمن الجرائم التي قام بها الغرب ضدّ اليهود”، ويقول: “ولكنّ ادّعاءهم بأنّ ما اقترفته النّازيّة بحقّهم من جرائم تقضي بإعطائهم وطنًا خاصًّا بهم ادّعاءٌ مردودٌ من أساسه. وإذا وجد لهذا ما يسوّغه، فإنّ هذا الوطن الخاصّ يجب أن يُمنح إيّاهم في الأرض الألمانيّة، لا في الأراضي العربيّة الّتي يملكها أهلها منذ ثلاثة عشر قرنًا”.
5- رأى الغرب في الكيان الصّهيوني بتكوينه العقائديّ والفلسفيّ امتدادًا للغرب، ورأس حربة له في قلب العالم الإسلاميّ على كلّ المستويات؛ فالكيان الصّهيوني من وجهة النّظر الغربيّة تجسيدٌ لنبوءة الكتاب المقدّس، وبيت الرّجل الأبيض (الأشكنازي) رسول الحضارة الغربيّة في الشّرق الإسلامي، وقاعدة الاستعمار الغربيّ والإمبرياليّة في قلب الوطن الإسلامي الطافح بالخيرات، والموقع الاستراتيجيّ بين آسيا وأفريقيا الّذي يشطر الوطن العربي شمالًا وجنوبًا، وشرقًا وغربًا، وواحة الدّيمقراطيّة الغربيّة في بحر الديكتاتوريّات العربيّة والإسلاميّة، وكلب الحراسة الغربيّة لضمان تدفّق النّفط إلى شرايين الحضارة الغربية، وأداة الغرب الرّئيسة لمواجهة نفوذ الاتّحاد السوفيتي في المنطقة في أثناء الحرب الباردة، وقاعدة النّظام العالميّ الجديد في مواجهة الخطر الإسلاميّ الصّاعد.
لذلك كلّه، كانت “الدّولة اليهودية” مشروعًا استراتيجيًّا يلتمس به الغرب إلى جانب الحفاظ على ميراثه الاستعماريّ غفران ذنبه، وضمان استمرار سعيه ومصالحه في المنطقة. وبينما أصبح وجود إسرائيل بالنّسبة إليهم طبيعيًّا، وشرعيًّا، فإنّ استمرار رفضها أو مقاومتها بأيّ شكلٍ من الأشكال غدا يمثّل خرقًا للشّرعيّة الدّوليّة!