رأي

الصفر والبداية: حين يتحوّل اللاشيء إلى كل شيء (أسامة مشيمش)

 

بقلم: د. أسامة مشيمش – الحوارنيوز

 

في أعماق الرياضيات والفلسفة، يختبئ رقم قد يبدو بلا قيمة للوهلة الأولى، لكنه في الحقيقة يحمل بين طياته إمكانات لا متناهية. إنه الرقم صفر، ذاك الشكل الدائري البسيط الذي غيّر مجرى الفكر والعلم والحضارة.

 

ليس مجرد رقم، بل حالة وجودية، رمز فلسفي، وأداة رياضية دفعت البشرية نحو آفاق جديدة من الفهم والابتكار.

 

 الصفر في الفلسفة: العدم الذي يصنع المعنى

 

  1. اللاشيء الذي يحتوي كل شيء

 

لفهم الصفر، لا بد من التحرر من الفكرة الشائعة بأنه يمثل “اللاشيء”. في الواقع، الصفر هو بداية كل شيء. فحين نبدأ العد، نبدأ من الصفر. وعندما نرسم الإحداثيات، يكون الصفر هو النقطة المرجعية.

في علوم الحوسبة مثلًا، اللغة التي بُني عليها عالم التكنولوجيا تتكوّن من صفر وواحد فقط. الصفر، إذن، ليس غيابًا، بل هو شرطٌ للوجود.

 

مثال عملي:

في الفيزياء، درجة الصفر المطلق (−273.15°C) لا تعني فقط “البرودة القصوى”، بل هي حالة تتوقف عندها حركة الجزيئات تمامًا. إنها نهاية الحركة، ونقطة انطلاق مفاهيم جديدة في ميكانيكا الكم.

 

  1. الصفر كمفهوم وجودي

 

من منظور الفلسفة الوجودية، الصفر يُشبه الإنسان في موقفه أمام الكون.

الإنسان قد يشعر أحيانًا بأنه لا شيء، لكن في لحظة وعي، يدرك أنه الكائن الوحيد القادر على تأمل هذا “الكلّ”، وربما التأثير فيه.

هنا يتحوّل الصفر من عدمٍ سلبي إلى احتمالٍ إيجابي، من فراغ إلى امتلاء بالمعنى.

 

  1. دائرة الوجود والعودة

 

الصفر ليس رقمًا ذا حواف، بل دائرة مغلقة. هذه الدائرة تعكس مفاهيم التكرار، والدورة، واللانهاية. كما في دورة الحياة والموت، أو في مدارات الكواكب، أو حتى في حركة عقارب الساعة.

 

مثال من علم الفلك:

الأجسام السماوية تدور في مسارات مغلقة، تشبه الصفر شكلاً ومعنى. الزمن نفسه يتحرك في دورات، مواسم، وسنين.

 

 الصفر في الزمن: لحظة الحاضر بين الماضي والمستقبل

 

  1. النقطة المفصلية

 

إذا نظرنا إلى الزمن كخط مستقيم، فإن الصفر هو نقطة المنتصف:

 

… -3, -2, -1, 0, +1, +2, +3 …

 

الصفر هنا هو الآن. اللحظة التي نعيشها، وهي لحظة قصيرة جداً، لكنها الوحيدة التي نملكها فعلاً. كل ماضٍ كان في يوم من الأيام “صفرًا”، وكل مستقبل سيمر حتمًا عبره.

 

  1. الصفر كلحظة وعي

 

يشبه الصفر حالة “السكوت بين نغمتين” في الموسيقى – تلك المساحة الصغيرة التي تعطي كل نغمة معناها. هو الفراغ الذي يتيح للزمن أن يُفهم.

 

في الطب النفسي مثلاً، هناك لحظة وعي “صفرية” يمر بها الإنسان حين يتأمل في حياته كلها خلال أزمة أو تحول جذري. إنها نقطة تعيد ترتيب كل شيء، رغم أنها نفسها “فارغة” من الأحداث.

 

  1. الصفر كظل الزمن

 

الصفر لا يقف ساكنًا؛ إنه يتحرك مع كل ثانية نعيشها. لحظة “الآن” تمر، وتتحول إلى ماضٍ، ويحل محلها “صفر” جديد. كأن الزمن يسير عبر نقاط صفرية متتابعة.

 

> وكأن الزمن يقول: “كل مستقبل يمرّ عبر بوابة الصفر ليصبح ماضياً.”

 

تطبيقات الصفر في العلم والتكنولوجيا

 

في الحوسبة: كل برامج الكمبيوتر تعتمد على نظام الثنائي (صفر وواحد)، وهو أساس البرمجة الحديثة.

 

في الاقتصاد: كلمة “تصفير” الديون تعني العودة إلى النقطة المحايدة، بداية جديدة.

 

في الطيران والفضاء: نقطة “صفر الجاذبية” أو “Zero-G” هي الحالة التي تنعدم فيها قوة الجاذبية – وهي مفتاح فهم فيزياء الأجسام في الفضاء.

 

 خاتمة: الصفر كبداية مستمرة

 

الصفر ليس رقمًا عاديًا. إنه فكرة، وأداة، ورمز لرحلة الإنسان في فهم الوجود.

هو ليس نهاية فقط، بل نقطة انطلاق.

هو السكون الذي يولد الحركة، والفراغ الذي يفتح باب الإمكان، واللاشيء الذي يحتوي بدايات كل الأشياء.

 

حين نفهم الصفر، قد نبدأ فعلاً بفهم كل شيء.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى