الصراع الدّولي الخفيّ لاكتشاف لقاح كورونا :حقائق ، إتهامات وإشاعات (الجزء الأوّل)
١-تمهيد: كتُر الكلام مؤخراً عن نظريات أو سيناريوهات كثيرة قد تكون بمعظمها خياليّة، وأشار البعض منها إلى أنّ فيروس كورونا قد يكون من "صناعة الإنسان" وأن وراء من نشره فريق خطّط ونسّق الأمور لتغيير أنماط حياة البشر وإعادة تكوين وتجديد إقتصادات مُترهّلة وإحداث تبديل جذري في أطباع وحياة البشر وغيرها من نظريات المؤامرة المطبوخة في أمكنة سريّة مختلفة لم يستطع أحد أن يُشير إليها بالأسماء. فمن هي؟ وأين هي ؟ ومن يقف وراءها؟
في هذا السياق إنتشرت عبر وسائل الإعلام المتعدّدة عدّة مقالات ورد فيها مثلاً أن القارة الأوروبية العجوز تريد أن تتخلّص من المسنّين الذين يشكّلون شريحة كبيرة من السكان و الذين يكلّفون خزينتها الكثير، وأن "عالم ما بعد كورونا" سيكون حتماً مختلفاً عن عالم ما قبل هذه الجائحة التي أصابت حتى اليوم أكثر من ١٥ مليون نسمة وتسبّبت بوفاة حوالي ٦٤٠ ألف نسمة معظمهم في أميركا وأوروبا. وكتب بعضهم أن هذه الجائحة قد تكون أحد مظاهر الحروب الأمنيّة والمخابراتيٍة الخفيٍة الدائرة بين الدول المُتصارعة سياسياً وإقتصادياً على قيادة العالم، خاصة بين أميركا من جهة والصين وروسيا من جهة أخرى. وقد توالت منذ بداية إنتشار هذا الوباء وتحوُله إلى جائحة الأخبار والإشاعات والإتهامات بين تلك الدول خاصة مع اتهام الإدارة الأميركية للصين بالتستّر أو بإخفاء معلومات مهمة عن أعداد الحالات وسرعة إنتشار الفيروس في بداية ظهوره في مدينة "ووهان" الصينية. وبعد حروب الكمامات والأدوية والمعدّات الطبيّة، ظهرت إشاعات أخرى أخذت حيّزاً كبيراً في كل وسائل الإعلام التقليديّة والغير تقليديّة في الدول الأوروبية وأميركا حول تطوير اللقاح الفعّال للحدّ من إنتشار هذا الوباء. وطالت تلك الإتهامات أيضاً الصين وروسيا مع صدور تصريحات أميركية تتهم الصين تارة وروسيا تارة أخرى بسرقة أو قرصنة معلومات سريّة عن الأبحاث الدائرة لتطوير لقاح لهذا المرض وما إلى ذلك.
لكن الأخطر في كل ذلك كان في التنافس الحاد الذي شهده العالم في السعي السريع لدرجة التهوّر لتطوير لقاح لهذا الفيروس وظهور بعض التقارير التي قد تكون أيضاً مدسوسة، والتي تحدّثت عن أن بيل غيت مثلاً قد يكون ضالع في مؤامرة دولية لا يمكن تخيّلها إلا في افلام الخيال الهوليودية، وهدفه هو زرع شرائح إلكترونية أو حسّاسات صغيرة جداً في جسم الإنسان وعن طريق اللقاح تحديداً، وقد يكون الهدف الرئيسي منها هو مراقبة كل الأشخاص الذين سيحصلون على اللقاح وهم بالمليارات وفي كل دول العالم! لا بل أن البعض ذهب أبعد من ذلك في قوله إنّ اللقاح سيحتوي على وحدات جينية (حمض نووي) أو قد يكون فيه بعض مكوّنات الخلايا الجذعية وبعض الأجسام المُضادة التي ستلعب دوراً كبيرًا في تغيير طبيعة "بني البشر " وتغيير سلوكهم ونمط حياتهم وأطباعهم إستكمالاً لفصول الخطّة التي شرحنا فصولها سابقاً.
هذه المقالة تهدف لطرح آخر التطوّرات العلمية في مجال البحث الجاري عالمياً عن لقاح لفيروس كورونا ولشرح كيفية صناعة أو تطوير اللقاحات، وما هي اللقاحات التي تتصدّر السباق في هذه الحرب الكونية حالياً. كذلك وهذا الأهم ما هي المخاطر التي قد تترّتب على حاجة البشرية جمعاء للحصول على لقاح في أقصر فرصة مُمكنة وهل الأكاذيب والإشاعات والاخبار والسيناريوهات الجهنمية والهوليودية المتداولة والمُتناقلة هنا وهناك عبر جميع أنواع وسائل الإعلام وخاصة الإجتماعية منها مُمكنة علمياً وكيف؟ وأين تكمن مخاطر تطوير لقاح سيوزّع على مليارات البشر بهذه السرعة الهائلة ودون التنبّه للمخاطر الكبيرة التي قد تترتّب على ذلك؟
وسنقسم هذا البحث إلى جزئين لإعطاء المجال للتوسّع فيه وشرح حيثياته بشكلٍ كامل.
١- بعض معطيات منظمة الصحّة العالمية : بحسب آخر تقارير صدرت منذ أيام عن منظمة الصحة العالمية هناك سباق حاد وكبير بين مراكز الأبحاث والمختبرات المهتمّة بعلم الفيروسات والشركات المُصنّعة للأدوية واللقاحات في العالم، خاصة في الدول المتقدمة في هذا المجال مثل الولايات المتحدة الأميركية والصين والدول الأوروبية وروسيا واليابان وكوريا الجنوبية والبرازيل التي أصابها الفيروس بشكل خطير في الأيام الأخيرة.
وبحسب هذه المنظمة هناك أكثر من ١٣٩ برنامجا بحثيا حول "مشروع لقاح" أو "مُرشح لقاح" تجري عليها الأبحاث في مختلف تلك المراكز. لكن أكثر هذه اللقاحات تقدّماً في مراحل الأبحاث والتطوير هما لقاحان تطورهما شركة Astra Zeneca في بريطانيا وآخر تطوّره شركة CanSino Biologics في الصين. وهذا اللقاحان أثبتا فعالية قويّة في تقوية جهاز المناعة عند الأشخاص الذين أخذوا جرعات منهما خلال التجارب السريريّة الأوّلية التي أُجريت عليهم.
وفي آخر تقرير نشرته منظمة الصحة العالمية في تاريخ ٦ تموز ٢٠٢٠ أحصت المنظمة ٢١ مشروع أو بحث جدّي متقدّم "جرى تجربته عند الإنسان" في تجارب سريريّة مختلفة بهدف تطوير هكذا لقاحات في دول مختلفة بحسب تقارير المنظمة التي أشارت إلى أن ثلث هذه المشاريع يتم العمل عليها في الصين التي كانت البلد الأوّل الذي ظهرت فيه أولى حالات SARS-CoV-2 أو ما سمّي لاحقاً بمرض COVID-19. ولذلك فإن الصين تُنافس دول العالم من أجل أن تحتل المركز الأوّل في إيجاد هذا اللقاح، لذلك وضعت حكومتها ميزانيات كبيرة من أجل قطف ثمار الأبحاث وتبوّء المركز الأول عالمياً في هذا المجال، مما سيعزز مكانتها العالميّة خاصة وأنها أتهمت بأنها قصّرت أو أخفت بعض المعلومات حول انتشار هذا الفيروس في بداية انتشار الوباء في مدينة "ووهان"وأنها تواطأت مع منظمة الصحة العالميّة من أجل ذلك، بحسب إدّعاءات الإدارة الأميركية التي حاولت دائماً تغطية فشلها وسوء إدارتها لهذه الأزمة الصحيّة الخطيرة عن طريق تحميل الصين مسؤولية إخفاء معلومات وما شابه ذلك.
والجدير ذكره هنا أنّ معظم التجارب هي في المرحلة الأولى التي تسمّى Phase 1 وهي مرحلة تبيان أمان اللقاح أو في المرحلة الثانية Phase 2 وهي المرحلة التي يختبر فيها الخبراء فعالية اللقاح عند عدد قليل من المتطوّعين.
وكما ذكرنا سابقاً فهناك لقاحان فقط في المرحلة الثالثة Phase 3 وهي المرحلة التي يتم فيها إختبار فعالية اللقاح عند عدد أكبر من المرضى. وهذا هو الحال كما قلنا مع اللقاح الذي تطوّره جامعة أوكسفورد في بريطانيا ( لقاح شركة Astra Zeneca) واللقاح الصيني الذي تطوّره شركة Sinovac Biologics الصينية بالتعاون مع معهد أبحاث برازيلي( Butantan institute).
٣- التقنيات المعتمدة : بشكل مُختصر ومن دون الدخول في الكثير من التفاصيل العلميّة والتقنيّة، هناك ثلاثة وسائل تُستعمل عادة في تطوير اللقاحات وهي التالية:
أ-إستعمال الفيروس الغير فعّال او "المقتول" : وهي طريقة مُعتمدة منذ زمن طويل في تصنيع عدد كبير من اللقاحات.
ويعتمد مبدأ هذه التقنيّة على زراعة الفيروس في المختبر ومن ثم علاجه بطُرق معيّنة لكي يفقد فعاليته على إحداث أي ضرر في جسم الإنسان بالكامل، أي أنه يصبح غير ضار أو مؤذي لخلايا جسم الإنسان. ومن ثم يتم حقنه عند الإنسان لكي يفرز جهاز المناعة عنده مواد مضادة ( أجسام مضادّة Antibody). والخطير في كل هذه العمليّة هو التأكد بعد علاج الفيروس في المختبر من أنه فقد أية إمكانية في إيذاء خلايا الجسم أي التأكد من أنه آمن بالكامل لكي لا يتكاثر ويسبب إلتهابات خطيرة في الجسم. وهناك ثلاث لقاحات من هذا النوع قيد التطوير في الصين (شركتي Sinovac و Sinopharm تحديداً).
ب- "لقاح محمول بواسطة فيروس آخر فاقد للفعالية" : وهنا نحقن في جسم الإنسان فيروس غير ضار ومُعدّل مثل ال Adenovirus وهو يُستعمل لكي نضع في داخله الوحدات الوراثية الضرورية لصناعة بعض البروتينات الموجودة على الجدار الخارجي أو الغلاف لفيروس كورونا. وهنا تجري الأبحاث على بروتين معيّن إسمه البروتين(S) وهو بروتين موجود في النتوءات أو التيجان الصغيرة الموجودة على غلاف الفيروس. وهو المسؤول عن تفعيل جهاز مناعة الجسم تجاه هذا الفيروس.
وعند حقن هذا اللقاح يفرز الفيروس المحقون كميات كبيرة من هذا البروتين وهذا ما يؤدي إلى اكتساب المناعة تجاه فيروس الكورونا. وهذه الطريقة هي المُعتمدة في اللقاح الذي تطوّره جامعة أوكسفورد في بريطانيا. وهي طريقة مُعتمدة أيضاً في أبحاث تجري في مدينة Pittsburgh في الولايات المتحدة وفي مدينة Rotterdam الهولندية.
ج-التقنيات التي تعتمد على نقل الوحدات الجينية المسؤولة عن صناعة البروتينات مباشرة: وهناك طريقتان:
١- الأولى تعتمد على نقل قطعة معيّنة من الحمض النووي الريبي او ال RNA من فيروس كورونا وحقنها مباشرة في خلايا المريض الذي نودّ تلقيحه. وفي هذه الحالة نتكلّم تحديدًا عن القطعة المسؤولة مباشرة عن صناعة البروتين S الذي ذكرناه آنفاً. وهكذا تعمل هذه الوحدات الوراثيّة على صناعة كميات كبيرة من البروتين المذكور في داخل الجسم وتحدث المناعة ضد فيروس كورونا. والمركز الذي أحدث أكبر خرق في هذا المجال يوجد في مدينة Cambridge في الولايات المتحدة حيث تقوم شركة Moderna Therapeutics بتقييم لقاح وصل إلى المرحلة الثالثة في الأبحاث بفضل تمويل كبيرة من الإدارة الأميركية وسوف يبدأ هذا البرنامج البحثي بتجربة سريرية واسعة في ٢٧ الشهر الحالي ( تموز ٢٠٢٠).
ه- الثانية تعتمد على نقل قطعة معيّنة من الحمض النووي أو ال DNA. وهنا كما هو واضح يتم وضع القطعة المسؤولة مباشرة عن صناعة البروتين المذكور أعلاه في خلايا المُلقّح المُتلقّي. وبفضل هذا التقنية هناك صناعة لكميّات أكبر من البروتين ولفترة أطول. لكن لهذه التقنية تعقيدات أكثر ناتجة عن الصعوبات التقنيّة التي لها علاقة بضخ ال DNA في الخلايا. ومن الشركات التي تنشط في هذا المجال شركة Inovio Pharmaceuticals الأميركية التي ابتكرت طريقة معيّنة لتسهيل إدخال ال DNA عن طريق إحداث عدة صدمات كهربائية للخلايا التي يُدخل لها هذه الوحدات الجينية الصغيرة.
ونشير إلى أنه في كلتا الحالتين : إستعمال ال RNA أو ال DNA لقد أثبتت دراسات عديدة جديدة في هذا المجال أمان هذه التقنية وفعاليّتها وأنهما تسمحان في اختصار الوقت بشكل كبير لتطوير اللقاح.
٤-الطرق الأكثر تقدّماً حتى تاريخ اليوم:
كما قلنا سابقاً فإنّ هناك عدّة برامج بحثية قيد التطوير في عدة دول، وتُشير المعطيات المتوفّرة حتى الساعة أن اللقاحات التي تستعمل تقنيات نقل وزرع ال RNA أو ال DNA هي التي تتصدّر القائمة في الحرب الضروس الدائرة لتطوير اللقاح في أسرع وقت مُمكن بسبب خطورة الوضع وأعداد الإصابات والوفيّات الهائلة التي تسبّب بها هذا الفيروس. وبهذا تكون شركة Moderna Therapeutics الأميركية في صدارة قائمة مراكز الأبحاث التي تجري في هذا المحال. وقد أعلنت هذه الشركة في ١٤ تموز أنها ستطلق في ٢٧ من الشهر الجاري أوسع دراسة سريريّة على ٣٠ ألف متطوّع في الولايات المتحدة. وسوف يُعطى نصف هؤلاء المرضى ١٠٠ ميكروغرام من اللقاح ويُعطى النصف الآخر لقاح وهمي لا فعالية له (Placebo). وستبحث الدراسة عن دراجة الحماية التي سيؤمّنها هذا اللقاح وما إذا كان يحمي أيضاً من تفاقم أعراض الإصابة بفيروس كورونا في حال حدوث ذلك بعد اللقاح. الدراسة ستستمر حتى ٢٧ تشرين أول واذا أثبت هذا اللقاح فعاليته، فإنّ الشركة وضعت كل البرامج والخطط لصناعة حوالي ٥٠٠ مليون نسخة من هذا اللقاح خلال سنة وقد يصل هذا الرقم إلى مليار نسخة خلال سنة اذا ما استدعت الحاجة. ويُعتبر هذا الإنجاز من أهم الخروقات في عالم اللقاحات لأن تطوير أي لقاح كان يأخذ عادة من عشرة إلى خمسة عشر سنة في أفضل الأحوال.
في المقابل وقّعت كل من المانيا وفرنسا وإيطاليا وهولندا عقودًا مع شركة Astra Zeneca من أجل الحصول على ٤٠٠ مليون لقاح في حال نجاح التجارب والأبحاث الجارية على اللقاح الذي تطوّره هذه الشركة في بريطانيا. ويحمل هذا اللقاح إسم AZD 122 وقد أظهرت مُعطيات علميّة مؤكدة نشرت بتاريخ ٢٠ تموز في مجلة Lancet المشهورة، أنّ هذا اللقاح أعطى نتائج سريريّة مهمة عند ١٠٧٧ مريض تتراوح أعمارهم بين (55-18) سنة يتمتّعون بصحة جيّدة. وأدّى هذا اللقاح إلى حدوث تغييرات كبيرة تشير إلى تفعيل جهاز المناعة بشكل كبير حتى بعد مرور ٥٦ يومًا على حقنه في الجسم. لكن دراسات أخرى يجب أن تتم على مرضى متقدّمين أكثر في السن أو عندهم عوامل خطورة مهمة للتعرّض للإصابة بأعراض خطيرة لفيروس كورونا. وهذا اللقاح يعتمد على حقن ال RNA وقد اعتمد الخبراء في تطويره على فيروس يُصيب نوع من القردة وعطّلوه وزرعوا في داخله الوحدات الجينية المسؤولة عن صناعة البروتين S الذي تكلّمنا عنه آنفاً.
* طبيب قلب وشرايين – مُنسّق ملتقى حوار وعطاء بلا حدود