الشُّعُورُ بِالْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ مَا بَيْنَ الْأَخِلَّاءِ والأقْرِبَاءِ (غازي قانصو)
بِقَلَمِ:أ.د.غَازِي قَانْصُو*- الحوار نيوز
سَأَلَنِي صَاحِبِي الَّذِي أعرِفُهُ مِنَ أهْلِ الفَلاحِ ودَمَاثةِ الخُلُق، فَهُوَ لَبِقٌ لائقٌ فِي سُلُوكِهِ وَكلامِهِ، وَمِن أهلِ النَّجَاحِ فِي عَالَمِ الْمِهْنَةِ: لِمَاذَا نَعِيشُ فِي غُرْبَةٍ وَوَحْدَةٍ مَا بَيْنَ الْأَصْحَابِ وَالْأَخِلَّاءِ؟
كَانَ جَوَابِي مُفَصَّلًا عَلَى نَحْوِ مَا، فَأَجَبْتُهُ بِهَذَا الْحَدِيثِ، وَانْشُرْهُ فالْمَوْضُوعُ شِبْهُ عَامٍّ، وَقَدْ يَهِمُّ كَثِيرًا مِنْ النَّاسِ.
يَتَجَلَّى الشُّعُورُ بِالْغُرْبَةِ وَالْوَحْدَةِ بٍمِثَالٍ كَمَنْ يُغَرَّدُ فِي غَيْرِ سِرْبِه. وَإنّ الْأَيَّامَ الَّتِي نَحْيَاهَا تَتَوَالَى فِيما نحنُ نَعِيشُ غُرْبَتَنَا “الْغَرِيبَةَ” هَذِهِ، فَيَتَسَلَّلُ إِلَى قُلُوبِنَا ذَلِكَ الشُّعُورُ بِأَنَّنَا غُرَبَاءُ وَحيدُونَ حَقًا فِي مُحِيطِنَا، كَمَا لَوْ كَانَ أحدُنَا شَخْصًا يَمْشِي فِي طَرِيقٍ لَا يَعْرِفُ نِهَايَتَهُ، بِلَا دَلِيلٍ، وَاذَا مَا الْتَقَى بِشَخْصٍ فَيَسْأَلُهُ مَقْصَدَهُ فَيَصْطَدِمُ بَأنٍ لَا جَوَابَ، وَنُتَابِعُ سَيْرَنَا فَنَجِدُ “الْمَطَبَّاتِ” الْمَجْهُولَةَ تَنْتَظِرُنَا.
نَعَمْ، نَحْنُ نَعِيشُ وَسَطَ الْأَهْلِ وَالْأَصْدِقَاءِ وَالْأَخِلَّاءِ وَالْمَعَارِفِ والزُّمَلاءِ وغيرِهم، إِلَّا أنّ هَمَسَاتِ الْوَحْدَةِ تَشْعَّرُ بِهَا أرواحُنا، أحْيَانًا بِشَكْلٍ خَفِيفٍ، أَوْ خَفِيٍّ، وَأَحْيَانًا أُخْرَى بِشَكْلٍ قَوِيٍّ، أَوْ عَاصِفٍ، كَالرِّيَاحِ الْعَاتِيَةِ.
وَفِي مَا ذَكَرْنَاهُ، تَرْحَلُ بِنَا الذَّاكِرَةُ الَى تَسَاؤُلَاتٍ عَمِيقَةٍ حَوْلَ مَا فَعَلْنَاهُ فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَهَلْ نَحنُ حَقًّا نَسْتَحِقُّ هَذَا الْأُسْلُوبَ مِنْ الْعَيْشِ.أَمْ هُوَ جُزْءٌ مِنْ نَسِيجِ الْوَاقِعِ الَّذِي نَعِيشُهُ، وَمَا صَنَعَتْهُ أَيْدِينَا؟
*”ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون”.*
اسْمَعْنِي، يَا صَاحِ، لِمَاذَا يُوجَدُ هَذَا الْمِقْدَارُ الْكَبِيرُ مِنْ الطَّلَاقِ النَّفْسِيِّ بَيْنَ الْأَزْوَاجِ، وهما في منزلٍ يتعايشان كعيشِ الضّرورةِ؟ وَلماذا هذه النسبةُ مِنْ الطَّلَاقِ الْفِعْلِيِّ أيضًا؟ لِمَاذَا يُوجَدُ هَذَا الِاخْتِلَافُ الْكَبِيرُ فِي الْمَفَاهِيمِ بَيْنَ الْأَبْنَاءِ وَالْوَالِدَيْنِ، فهُم غرباءُ في البيتِ الواحدِ؟ لِمَاذَا يُشْعِرُ التِّلْمِيذُ أَنَّهُ وَحِيدٌ كَغَرِيبٍ فِي مَدْرَسَةٍ تَضُمُّ أَلْفَ تِلْمِيذٍ؟ لِمَاذَا يَشْعُرُ عَامِلٌ أَوْ مُعَلِّمٌ أَنْ لَا أَحَدَ يُحِبُّهُ مِنْ زُمَلَائِهِ، ينافِسونَهُ حتّى على الرّغيفِ؟ لِمَاذَا يَشْعُرُ مُوَاطِنٌ فِي حَيٍّ مِنْ أَحْيَاءِ الْقَرْيَةِ أَوْ الْمَدِينَةِ أَنْ لَا أَحَدَ يَقْصِدُهُ وَلَا يُمْكِنُ لَهُ أَنْ يَقْصُدَ أحَدًا؟ لِمَاذَا النَّاسُ فِي وَادٍ وسُلطَتُهُم الحَاكِمَةُ فِي وَادٍ آخَرَ؟ وَلِمَاذَا نَتَخَاطَبُ دَوْمًا كَالْغُرَبَاءِ؟ يَعنِي انَّنَا فِعْلًا غُرَبَاءُ عَنْ بَعْضِنَا، ألَيْسَ كذلك؟ لماذا لم يَعُد يوجَدُ صديقٌ صَدُوقٌ إلّا ما نَدَر؟ لِمَاذَا تَجَمَعْنَا الْعَشِيرَةُ وَلَا تَجْمَعُنَا الشَّرِيعَةُ؟ لِمَاذَا تَجْمَعُنَا الْعَصَبِيَّاتُ وَالنَّزَعَاتُ العَصبيةُ الْقَرِيبَةَ وَالْبَعِيدَةَ وَلَا تَجْمَعُنَا الْمُوَاطَنَةُ الَّتِي نَعِيشُ فِي كَنَفِهَا؟ لماذا نخضعُ للأعرافِ ولا نَحتَرمُ سِيَادَةَ القانونِ؟ وَأَلْفُ سُؤَالٍ يُطْرَحُ مِثْلَ هَذِهِ الْأَسْئِلَةِ. أَجَلَ إنّهُ زَمَنُ الْغُرْبَةِ، وَقَدْ “وُعِدْنَا بِهِ”، لِمَنْ يَعْلَمُ. “فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ”.
وَفِي تَفْسِيرِي لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ، “الشُّعُورُ بالغُربَةِ والوَحدَةِ”، الَّتِي يَشْكُو مِنْهَا كَثِيرُونَ؛ رُبَّمَا يَكُونُ الِانْغِمَاسُ فِي أَفْكَارٍ تَتَعَلَّقُ بِخَيْبَاتِ الْمَاضِي هُوَ جَذْرُ هَذَا الشُّعُورِ، فَيُمكن أنْ تَكُونُ قَدْ مَرَّتْ تَجَارِبُ مُؤْلِمَةٌ، أَوْ ثَمّةَ فِقْدَانٌ لِلِانْسِجَامِ فِي الْمَفَاهِيمِ وَالْقِيَمِ فيما بينَ المُتَعايشينَ عن قُربٍ، كَمَا قَدْ يَعُودُ الموضوعُ الى انْعِدَامِ التَّفَاهُمِ الْفِكْرِيِّ او النّفسي، أَوْ أنّ الْعُزْلَةَ الِاجْتِمَاعِيَّةَ سَبَبٌ لهذا الفِراقِ، أَوْ الِارْتِبَاطَ بِنِظَامِ الْمَصَالِحِ وَالْمَنَافِعِ فَقَطْ، فَكُلُّ ذَلِكَ يُؤَدِّي دَوْرًاً فَاعِلًا فِي تَشْكِيلِ هَذَا الشُّعُورِ بِالْوَحْدَةِ، بِالْغُرْبَةِ، وَالْبُعْدِ، وَبِالتَّالِي بِالْأَلَمِ، وَالْحَسْرَةِ، وَالشُّعُورِ بِالْخَيْبَةِ، وَالْمَلَلِ، وَالضَّجَرِ مِنْ الدُّنْيَا وَأَهْلِهَا،…
وَفِي النَّتَائِجِ لِهَذِهِ الظَّاهِرَةِ قَدْ نَجِدُ مَظَاهِرَ مُتَعَدِّدَةً كَنِتَاجٍ لَهَا؛ مِنْهَا مَا هُوَ سَلْبِيٌّ، وَمِنْهَا مَا هُوَ إِيجَابِيٌّ!:
أ- يُمْكِنُ أَنْ تَظْهَرَ هَذِهِ النَّتَائِجُ كَتَأْثِيرٍ سَلْبِيٍّ عَلَى الصِّحَّةِ النَّفْسِيَّةِ، مِثْلَ اضطراباتِ الِاكْتِئَابِ وَالْقَلَقِ، وَالتَّوَتُّرِ، وَالِانْفِعَالِ، وَالْغَضَبِ، وَالتَّعَبِ، وَالْحُزْنِ، وَالْمُغَالَاةِ بِالشُّعُورِ بِالشَّجَنِ، وَمَا الَى ذَلِكَ.
ب- وَقَدْ تَكُونُ مَصْدَرَ إِلْهَامٍ لِلْبَحْثِ عَنْ الذَّاتِ بِعُمْقٍ، وَاكْتِسَابِ فَهْمٍ عَمِيقٍ لِلْحَيَاةِ، وَمَجَالٍ لِتَطْوِيرِ الْكَفَاءَاتِ الذَّاتِيَّةِ، وَلِتَعزِيزِ الْقُدُرَاتِ الشَّخْصِيَّةِ، بِهَدَفِ تَوْكِيدِ الذَّاتِ وَتَحْقِيقِهَا، والقِيامِ بدَوْرٍ فًاعِلٍ وَنَافِعٍ.
وَمَعَ هَذَا الْمَزِيجِ الْمُعَقَّدِ مِنَ الِأسْبَابِ وَالْمَشَاعِرِ وَالْآثَارِ وَالنَّتَائِجِ، يَمْضِي الْإِنْسَانُ فِي مَسَارِ حَيَاتِهِ، يَرْسُمُ قِصَّةً تَحبُكُها ابْتِسَامَاتٌ مَكْبُوتَةٌ، وَآهَاتٌ مَحبُوسَةٌ، وَدُمُوعٌ لَا تُرَى، وَأنينٌ في النّفْسِ لا يُسْمَع. كَمَا، بالمُقَابِلِ، تَحكِي عَنْ إِنْجَازَاتٍ مُمَيَّزَةٍ، وَإمْكَانَاتٍ قَادِرَةٍ عَلَى الْعَمَلِ وَالِانْجَازِ، عَلَى الرَّغْمِ مِنْ كُلِّ مَا يُحِيطُ بِالْمَرْءِ.
يا صاحِ، لَيْسَتْ الْحَيَاةُ سَجَّادَةً حَمْرَاءَ نَمْشِي عَلَيْهَا، وَإِذَا مَشَيْنَاهَا مَرَّةً فَذلِكَ اسْتِثْنَاءٌ، وَإِمَّا الْحَيَاةُ فَهِيَ تَشْكِيلٌ حَقِيقِيٌ مُعَقَّدٌ جِدًّا، نَعْرِفُ بَعْضَهُ، وَنَجْهَلُ الْكَثِيرَ مِنْهُ؛ فِيهِ الْحَيَاةُ وَالْمَوْتُ، فِيهِ التَّعَبُ وَالرَّاحَةُ، فِيهِ الرِّبْحُ وَالْخَسَارَةُ، فِيهِ الْوَفَاءُ وَالْغَدْرُ، فِيهِ الْأَمَانَةُ وَالْخِيْانَةُ، فِيهٍ التَّكَبُّرُ وَالتَّوَاضُعُ، فِيهِ الْإِيمَانُ وَالْجُحُودُ، فِيهِ الشُّكْرَانُ وَالنُّكْرَانُ، فِيهِ الْوَعْيُ وَالْغَبَاءُ، فِيهِ الْغَدْرُ وَالْوَفَاءُ، فِيهِ الصِّدْقُ وَالِادِّعَاءُ، فِيهِ الْعَامِلُونَ وَالْعَاطِلُونَ، فِيهِ الْمُوفُّونَ بِعُهُودِهِمْ وَالنَّاكِثُونَ، فِيهِ الْعُلَمَاءُ وَالْأَدْعَيَاءُ، فِيهِ الشَّاهِدُونَ بِالْحَقِّ وَالْمُنْكِرُونَ، فِيهِ الْأَحيَاءُ بِقُلُوبِهِمْ وَالْأَمْوَاتُ، فِيهِ الْأَنْصَارُ وَالْمُتَخَاذِلُونَ، فِيهِ أهْلُ النَّعِيمِ، وَفِيهِ أهْلُ الْجَحِيمِ. وَفِيهِ مَا فِيهِ إِلَى مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يُحْصَى.
يَا صاحِ، النَّصَائِحُ الْمُمْكِنُ التَّوَجُّهُ بِهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ:
- أَعِرِ اللهَ جُمْجُمَتَكَ، وَلَا تَتَّخِذْ غَيْرَهُ رَبًا وَلَا بَدِيلًا، فَإنّهُ الْحَيُّ الْقَيُّومُ، الْحَلِيمُ الْكَرِيمُ، الْخَبِيرُ الْعَلِيمُ، لَهُ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدَ، وَكَفَى بِهِ وَكِيلًا وَنَصِيرًا.
- إبْحَثْ عَنْ قُوَّتِكَ الدَّاخِلِيَّةِ، وَعَنْ قَدَرْتِكَ عَلَى التَّأَقْلُمِ والتَّكَيَّفِ وإثباتِ ذاتِك بٍوَعيٍ وَذَكاءٍ وَحِكمةٍ وَدِرَايَةٍ وَمُدَارَاةٍ.
- تَوَجَّهْ نَحْوَ أَحْبَائِكَ وَأَصْدِقَائِكَ وَأَهْلِكَ، مَهْما كانوا قِلةً، لِلتَّحَدُّثِ وَالتَّبَادُلِ بِالْمَشَاعِرِ والهُمُومِ، وَعَزِّزْ الرَّوَابِطَ الِاجْتِمَاعِيِّةَ بِهِمْ، فَإنّهُم خَاصَّتُك، “أهْلِي وإنْ ضَنّوا عَلَيَّ كِرَامُ”.
- اكْتَشِف هُوِيَّتَكَ مِنْ خِلَالِ النُّمُوِّ الشَّخْصِيِّ؛ بِالإيمانِ، وَالْعِلْمِ، وَالْمَعْرِفَةِ، وَالْعَمَلِ، وَالِإنْجَازِ، وَحَافِظَ عَلَى التَّفْكِيرِ الْإِيجَابِيِّ، وَاجْتَنِبْ الْأَفْكَارَ السَّلْبِيَّةَ.
- وَتَذَكَّر دَائِمًاً أَنَّ الْحَيَاةَ مَلِيئَةٌ بِالتَّحَدِّيَاتِ وَالْفُرَصِ، وَعلى الرَّغْمِ مِنَ الْغُرْبَةِ. يُمْكِنُكَ، يَا صَاحِ، بِنَاءَ جُسُورٍ لَكَ تُؤَدِّي بِكَ إِلَى حَيَاةٍ أَكْثَرَ إِشْرَاقًا.
وَلَا تَنْسَ؛ أَوَّلًا، وَأَخِيرًا، أنْ يَكُونَ الْحُضُورُ الْإِلَهِيُّ فِي قَلْبِكَ حَاضِرًا على الدَّوَامِ، وَأَنْ تَتَوَكَّلَ عَلَى اللهِ فِي كُلِّ مَسَائِلِكَ، وَأَنْ تَدْعُوهُ، وَأَنْ تَرْجُوهُ، فَفِي ذَلِكَ نِعْمَةٌ لَا يَعْرِفُهَا إِلَّا الْعَارِفُونَ، فَإِنَّهُ اللهُ خَيْرُ الْمَسْؤُولِينَ، وَأَكْرَمُ الْمُعْطِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.
ولنَنتَبِه يا صاحِبي أن لا نكونَ غُرباءَ، فقراءَ، *(يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُون، إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ).*
ألَا نَذْكُرُ قَوْلَ سَيِّدِ الشُّهَدَاءِ الْإِمَامِ الْحُسَيْنِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: *إِلَهِي، “مَاذَا وَجَدَ مَنْ فَقَدَكَ، وَمَا الَّذِي فَقَدَ مَنْ وَجَدَكَ؟! لَقَدْ خَابَ مَنْ رَضِيَ دُونَكَ بَدَلًا، وَلَقَدْ خَسِرَ مَنْ بَغَى عَنْكَ مُتَحَوَّلًا، كَيْفَ يُرْجَى سِوَاكَ وَأَنْتَ مَا قَطَعْتَ الْإِحْسَانَ، وَكَيْفَ يُطْلَبُ مِنْ غَيْرِكَ وَأَنْتَ مَابَدَّلْتَ عَادَةَ الِاِمْتِنَانِ؟”*
*عميد معهد الدراسات الإسلامية في الجامعة الإسلامية