الشغب الممنهج يعود من جديد
ليس من المستغرب أن تقوم تحركات منتفضة ثائرة على الأوضاع الاقتصادية التي بلغت الذروة في انهيارها بعد ارتفاع سعر الدولار الجنوني دون حسيب أو رقيب؟ وليس من المستغرب أن يكفر الناس بالسياسات الاقتصادية والمالية التي أربكت معايشهم وجعلت غالبيتهم في عداد الفقراء والمعوزين. لكن المستغرب أن تنطلق هذه التحركات بشكل منهجي لضرب القوى الأمنية وإسقاط العشرات من عناصر الجيش اللبناني الذي لا يقل بؤساً عن الفقراء في كل ضروب المعاناة الحياتية.
والمستغرب أن تنطلق هذه التحركات بشكل منهجي لضرب المصارف (ربما لإقفالها) والمؤسسات العامة والخاصة. كما أنه من المستغرب أيضاً ألا تنطلق التحركات نحو قصور القيادات والزعماء السياسيين المسؤولين المباشرين عن الأزمة المستفحلة وتداعياتها الخطيرة التي لم يسبق للبنان أن عاشها في تاريخه. ويبلغ الاستغراب أوجه عندما نرى أن بعض هذه القيادات عينها هي التي تدير دفة الناس وتحاضر بما كان ويكون ويجب أن يكون، والوقاحة عنوان إطلالاتهم وتصريحاتهم وما يحاضرون.
لا نتهم الناس الذين يعانون ويعبّرون عن رفضهم بطرق قد تكون ارتجالية غاضبة لا تصبّ في مصلحة ما يدعون إليه، لكن الاتهام المباشر والواقعي لا شك يطال من يوجّه هذه التحركات لتعطيل البلد وإسقاط ما بقي فيه من نظام واستقرار وأمان.
والصورة عينها تتجلّى في الانتفاضة الحقّة التي بدأت في 17 تشرين، وكانت الأمل المنشود لتغيير الواقع اللبناني في السياسة والاقتصاد والقضاء وما شابه، حتى تحركّت القيادات نفسها، كما تتحرّك الآن، لحرف الانتفاضة عن مسارها في ما يخدم مصالحها فانقلب الأمر إلى تدمير للبلاد وتعطيل المؤسسات وشلّ الحياة العامة ومنع الناس من التحرك، فكانت نتائج تلك الانتفاضة كارثية مهما حاول البعض تجميلها وتبريرها وإضفاء القداسة على مضامينها.
لقد قبل الرئيس دياب بمواجهة الانهيار الاقتصادي، ثم بمواجهة الوباء الفتّاك، ووجدنا فيه إصراراً على العمل لم نجده في من سبقه. ولا شك أن الخطر المحدّق بنا يتطلّب وعياً عظيماً، وتضامناً جماعياً استثنائياً، لكن نجاح دياب، وهو قيامة البلد ونجاحه، لن يصبّ في مصلحة القيادات التقليدية والعائلات التاريخية وزعامات الطوائف، ولذلك بدأ العمل على إسقاطه وضرب مشروعه منذ أيام الحكومة الأولى، وانتهاءً أخيراً وليس آخراً بالتحركات المريبة التي تقودها أيادٍ سوداء مظلمة.
والأسئلة البديهية في هذا المقام: من هو بديل الرئيس دياب إذا استطاعوا إسقاطه؟ هل إعادة الرئيس الحريري على حصان أبيض تهتف باسمه الجماهير المستضعفة؟ هل يملك صفات قيادة بلد يعاني في كل مجالاته الحياتية؟ ألم تنبئنا السنوات الماضية وتجاربه العديدة والمريرة أن لا حظ له ولا قدرة على إدارة بلد في أوضاع شبه طبيعية، فكيف يديره في زمن الانهيار ووباء كورونا؟
نأمل ألا نستعيد نتائج انتفاضة 17 تشرين وتداعياتها، فالاحوال الراهنة لا تحتمل المغامرات الارتجالية، ولا تمتلك ترف إضاعة الوقت، وقد آن للبنانيين أن يعوا حقيقة المخاطر التي يعيشها بلدهم حيث كل الظروف تعاكس مسيرته بلا يد خارجية تمتدّ لإعانته، وسيف الوقت لن يرحم تهاونهم، وفرقتهم لن تزيد الأمور إلا ضياعاً وتيهاً.