الشرق الأوسط الجديد والردع الملتبس عربياً وإسرائيلياً(فرح موسى)
بقلم أ.د.فرح موسى*- الحوار نيوز
يبدو أن سياسات العالم والمؤسسات الدولية بدأت تواجه مأزقًا استراتيجيًا لجهة تحديد الأولويات،وحسم الخيارات في حماية السلم والأمن الدوليين.فمنذ حدوث المؤامرة الكبرى على فلسطين،توالت النكبات العربية والإسلامية لبناء شرق أوسط يحاكي مصالح الغرب وعنصرية الأعراق المتوحشة. وهكذا تتابعت الحروب في منطقتنا لإجهاض كل جهد عربي لإحقاق الحق الفلسطيني؛فاحتلت إسرائيل سنة ١٩٦٧ القدس والضفة الغربية وغزة،وطلب مجلس الأمن العودة إلى وضع القدس الدولي(القرار ٢٦٧ تاريخ:٣/٧/١٩٦٩،ومنع مجلس الأمن إقامة مستوطنات إسرائيلية في الأراضي المحتلة، القرار٤٦٥،فجرى كل هذا ولم يحترم أي من متطلبات القانون الدولي.
لقد وضعت الولايات المتحدة حقها في النقض ومارسته ضد كل عقوبة تطال العدو الصهيوني.وهكذا نجد أن الحروب العدوانية قد تتابعت،فجاءت حرب٧٣،وغزو لبنان١٩٨٢،وكل ذلك إنما كان لأجل تثبيت سياسة ردع قاتلة بحق العرب والمسلمين.وقد عضد كل هذا بغزوات استعمارية في كل اتجاه،وخصوصًا غزو العراق لتدعيم الردع الصهيوني وجعله حصينًا في مواجهة شعوب المنطقة وكياناتها الملتبسة في الدين والسياسة.
يقول روجيه غارودي في كتابه الأصوليات:”إن غزوات أمريكا لم تكن لحماية المنطقة وأهلها،بل لأجل السيطرة على النفط،باعتباره يشكل قاعدة النماء للمشروع الغربي الصهيوني في المنطقة. فالولايات المتحدة كانت وستبقى ترغب في الحفاظ على هيمنتها على المنطقة العربية وعلى البلدان الغربية الأخرى…”.
فالمستعمر في كل أحواله،سواء كان محاربًا،أو مفاوضًا،يريد دائمًا الحفاظ على الهيمنة،غربًا وشرقًا. وما يجري في أوكرانيا ليس بعيدًا عما جرى ويجري في الشرق الأوسط.فالردع الأمريكي يحتاج دومًا إلى ما يعطيه دافعية نحو التفوق والغطرسة حتى لو كان ذلك على حساب المبادىء والقيم الإنسانية.
إن نظرةً شمولية في ما يشهده العالم من تجاذبات عسكرية وسياسية،وبخاصة ما يعايشه الشرق الأوسط من صراعات،يكشف عن عصبية الردع الأمريكي اتجاه فلسطين، فهو يريد للكيان الصهيوني أن يكون خير ممثل للامتداد الغربي والاستعماري في المنطقة، بحيث يكون له التجوهر والقيامة الذاتية على نحو ما تقوم به الكيانات والدول الطبيعية،كما قال هرتزل في كتاب الدولة اليهودية:”ستكون هذه الدولة حصنًا متقدمًا للحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية….”.
فكل الحروب في منطقتنا،وكل ما أحاط بها من غزوات،إنما كان بهدف التأسيس لحالة ثابتة من الردع وأبدية. ردع يحول دون امتداد ما كان يسمى بالمد الشيوعي،ويمنع من نهوض أي مشروع تحرري في بلاد العرب والمسلمين،وليس يخفى على أحد ممن يعمل في مجال الفكر والسياسة،أن النظريات الغربية كلها،سواء كانت لها تجليات المدارس الفكرية،أو تمظهرت بصيغ ومناهج علمية،أو اتخذت أشكالًا فلسفية لتبرير الوجود وحق الكرامة والتعبير والحرية.كل ذلك لم يكن مجردًا للبناء الحضاري كما زعم فلاسفة التنوير في الغرب والشرق، بل كان لأجل تثوير الصهيونية،وخلق امتدادات لها لتكون أكثر حضورًا في العالم،لما رآه قادتها من ضرورات لبلورة المشاريع في إطار من الجهد التوسعي،بحيث تكون المدارس الفكرية سباقةً في خدمة المشروع الصهيوني في المنطقة. ولهذا خرجت إلى الوجود أطروحات العلمانية، والاشتراكية، والوضعية، والبراغماتية،وغيرها مما تولّدت منه مناهج التحول الفكري لخدمة الصهيونية العالمية.كما إنه لا يخفى ما كان لمراكز البحوث الغربية من تأثير على صياغات تتعلق بالرؤية الإنسانية القائمة على المظلومية ومحاربة السامية بهدف خلق سياسات ردعية داخل مؤسسات الغرب تدعم التوجهات الاستعمارية في فلسطين.
وليس بعيدًا عن هذا التأطير الفكري والثقافي ما كان يؤديه الاستشراق من دور في بعث الروح العدائية اتجاه العرب والمسلمين، إذ كانت الخلاصات البحثية والتوصيات بما يخدم سياسات الغرب وتوجهاته لإقامة الردع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، وقد كتب المستشرق اليهودي”برنارد لويس”،ما يؤكد هذه النزعة العنصرية،فجاءت نصيحته للبنتاغون وللدولة اليهودية في فلسطين أن ردع الصهيونية ليس متاحًا من خلال السلاح والقوة وحسب، بل لا بد من أن تسبقه صراعات الإثنية والعرقية كضمانة وحيدة وأكيدة لقيامة ردع استراتيجي ثابت وفعال في مواجهة البربرية في الشرق الأوسط. فإذا أردنا الحديث عن السياسة الردعية للغرب في منطقتنا،فإن أول ما ينبغي ملاحظته،هو أن الشرق الأوسط كان ولا يزال يشكل منفذًا للسياسات الغربية في التأسيس لعامل الردع الذي لا يمكن الاستغناء عنه في حماية مصالح الغرب والصهيونية،ولهذا،نجد دائمًا الغزوات تحدث وتترافق مع إعلانات سياسية واستراتيجية لبناء شرق أوسط جديد تمرر بياناته من خلال الغزوات الصهيونية.
وهنا يكمن السؤال الجوهري،فما هي مآلات هذا الردع بعد أن بدأت الغزوات تترهل أمام محور المقاومة،وتنعكس سلبًا على المشروع الغربي،إذ إن حالة هذا المشروع لم تعد كما كانت منذ وعد بلفور إلى زمن بدء الهزيمة على أبواب فلسطين عام٢٠٠٠،وعام ٢٠٠٦،وفي كل الانهيارات التي لحقت وتلحق به في غزة فلسطين قبل طوفان الأقصى وبعده. فكل شيء قد تبدّل بلحاظ ما يعايشه المشروع الغربي الصهيوني،فأصبح الردع ملتبسًا جدًا،ولم تعد أمريكا قادرةً على إنفاذ سياساتها القهرية على النحو الذي يمكنها من تثبيت سياسة ردعية وفق مصالحها وأهدافها، وكما نلاحظ من سياقات الأحداث أنها تحاول الاستعانة بالتطبيع العربي لتقوية دعائم المشروع الصهيوني.
وهنا تبدو لنا مفارقة عجيبة وغريبة،وهي أن الغرب المستعمر كان يستعين بالردع الصهيوني لإجهاض المشروع العربي التحرري وفرض التطبيع،فإذا به يتحول ليأخذ متنفسًا لمشروعه بالتطبيع العربي والرهان عليه.وهذا يعني في الاستراتيجيا أن سياسة الردع الأمريكي قد افتقدت إلى أبرز مقوماتها في المنطقة،عربيًا وإسرائيليًا، فلا التطبيع العربي يملك مقومات ذاتية للتحقق،أو لتأسيس عامل ردعي في مواجهة المستجدات الردعية لمحور المقاومة،ولا الردع الإسرائيلي قادر على إعطاء نفسه فرصة النهوض رغم كل ما توفر له من دعم غربي وعربي،ما يؤكد لنا ضرورة استمرار المقاومة في عملها النقطي (المرحلي)بعد أن استوت على ردع عظيم من باب المندب إلى مضيق هرمز،فإذا لم تعد للعدو إمكانية خوض الحروب الاستراتيجية،فليترك لطعم هزيمته كيما يدرك فشله في ظل التحولات العالمية المشهودة،إذ لا داعيَ للحرب الكبرى طالما أن العدو المستعمر لا يرى فيها بعدًا استراتيجيًا له،وهذا هو منتهى الهزيمة أن يدرك الغرب،وكذلك الكيان الصهيوني، أن خيارات الغزو لم تعد مجدية له،بعد أن كانت خيارًا وحيدًا له في العراق وأفغانستان،وحيث كانت له غزوات.
ولعل سياسة واستراتيجية الربح النُقطِية في إدارة الصراع هي الكفيلة بإجهاض المشروع الغربي بكل سياساته وفلسفاته،ويأتي على رأسها الحمأة الأمريكية للتطبيع العربي. وكأنه حبل النجاة للخلاص من أزمات الوجود والسياسة.لقد تأكد لأهل الفكر والسياسة،أن مشروع التطبيع العربي بات يفتقر لأدنى مقوماته الفعلية،ذاتًا ووجودًا،فأخلق به أن يكون أكثر عدمية في أبعاده السياسية والاستراتيجية والردعية.ولعل القابل من الأيام يظهّر لنا حقيقة المآلات في ما قد تستوي عليه الصراعات في المنطقة والعالم،نظرًا لما هو معلوم في التحولات العالمية أن فلسطين لم تعد شأنًا خاصًا، وإنما بات لها معنى العالمية،سواء في معناها الديني،أو في معناها السياسي…والسلام
* رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.