محمد قجّة – الحوارنيوز
حينما أطلق المتطرّف اليمينيّ الفرنسي “جان ماري لوبين” ذات يوم صيحتَه العنصرية مطالباً بطرد العرب والأفارقة من فرنسا، واستخدام الشاحنات لإعادة هذه الحضارة “الآسنة” إلى مكانها الطبيعي، فإنه بذلك لم يكن يعبّر عن موقفٍ فرديّ أو رأيٍ عابر، وإنما كان يمثّل قطاعاً واسعاً في الرأي العام الفرنسي والأوروبي، بنسب متباينةٍ وأشكال شتى، وهو موقف يبرز بين فترةٍ وفترة.
وهذا الموقف لا يمكن عزله عن الخلفيات التاريخية والأسس الفلسفية التي يقوم عليها الصراع الحضاري، والتي ينهض على أركانها واقع الحياة اليومية في فرنسا وأوروبا، فالصراع ليس وليد رحلة المهاجرين من شمال افريقيا إلى مدن فرنسا الكبرى بحثاً عن العمل ولقمة العيش، وهو ليس وليد الصدام العسكري في القرن الماضي والثورات في القرن الحالي، إنه صراعٌ له من العمق التاريخي ما يجعله يمتدّ آلاف السنين في أحشاء التاريخ السحيق، وهو حينما يظهر اليوم بصورةٍ أو بأخرى، فإنما يعبّر عن خلفيّاتٍ مستمرة لم يستطع الزمن أن يمحوها.
*****
لم تستطع الثورة الفرنسية التي قامت عام 1789 أن تتجاوز عقدة الصراع هذه، بل إن هذه الثورة هي التي أرسلت رجلها “نابليون” لاحتلال مصر، منفذ الشرق في الطريق إلى الهند.
ولم يستطع العقل “الديكارتيّ” ولا عواطف “جان جاك روسو” ولا واقعية “شارل ديغول” أن تقفز فوق حواجز التاريخ، فتقول للفرنسيين المعاصرين: أنتم إخوةٌ خُلّص لهؤلاء المهاجرين الذين حمل بعضهم الجنسية الفرنسية، والذين أسهموا بدورٍ كبير في بناء الصرح العمراني في المدن الفرنسية.
“جان ماري لوبين” الذي يتكلم باسم الجبهة الوطنية، يرى أن مشاكل فرنسا الداخلية واضطراب الأمور فيها، مرَدُّه إلى هذه الحفنة من مشوّهي شمال افريقيا، إنهم يحملون “حضارتهم الآسنة” كي يلوّثوا بها “النقاء” الفرنسي الخالص، وبالتالي يحرّفون العقل “الديكارتيّ” ويلقون الشوائب في بحيرة “فيكتور هيغو” الصافية!
ومن السهل جداً على “جان ماري لوبين” أن يحمّل المهاجرين العرب مسؤولية بعض ظواهر الانهيار في الحضارة الغربية المعاصرة، ولكنه لا يستطيع أن ينظر أبعد من زاوية أنفه، ليرى أن المشكلة الفرنسية والأوروبية أعمق بكثيرٍ من مسألة مهاجرين عرب أو أفارقة، وأنها تعكس بحدّةٍ ومرارة -كما يقول المفكرون الأوروبيون- دلائل انهيار الحضارة الأوروبية والانكماش الأوروبي الحتميّ أمام القوى الأخرى في العالم، وبخاصةٍ القوى الصاعدة في الشرق الأقصى.
الحضارة الآسنة يراها “جان ماري لوبين” في مئات الألوف من المهاجرين العرب، الذين شحنَتْهم فرنسا كيَدٍ عاملةٍ رخيصة من المغرب والجزائر وتونس بصورة خاصة، ومن الدول الأفريقية بصورةٍ عامة، وهذه اليد العاملة الرخيصة قامت ببناء أنفاق المترو والجسور، وتقوم بتنظيف الشوارع في المدن الفرنسية، وبأعمال الخدمات الفندقية، ثم يأتي “جان ماري لوبين” ليقول: إن هذه اليد العاملة الرخيصة حضارةٌ آسنة يجب أن نطردها بالشاحنات لتأخذ مكانها الطبيعي في بلادها المتخلّفة.
*****
حينما احتلت فرنسا الجزائر عام 1830 كان عدد المدارس في الجزائر أكثر – نسبياً – من عددها في فرنسا، ولم تكن دول المغرب في غيبوبةٍ حضارية حينما دهمتها موجة الحقد الفرنسي والأسباني، بل كانت تمثّل استمراراً عريقاً للحضارة العربية والإسلامية وللدول القوية التي ظهرت هناك في القرون الثلاثة عشر الماضية.
*****
هذه النظرة العنصرية المتعالية لم يسْلم منها حتى الفرنسيون الذين ولدوا في الجزائر أيام الاستعمار، والذين تُطلق عليهم تسمية “الأقدام السوداء”، فالعنصرية الفرنسية تنظر إليهم على أنهم قد فقدوا جزءاً من النقاء الفرنسي، وأنهم تلوّثوا بالأرض الإفريقية والهواء الإفريقي، فأصبحوا بالتالي مواطنين من الدرجة الثانية! وقد برز هذا في عددٍ من الحالات لدى بعض رجال الفكر ولدى بعض الفنانين الفرنسيين الذين لهم أصولٌ جزائرية أو افريقية، ومدى الهجمة الحاقدة التي يتعرضون لها، مثل الممثلة المعروفة “إيزابيل ادجاني”.
*****
تلتقي صرخة “جان ماري لوبين” في حدتها العنصرية، مع صرخةٍ مماثلة كان قد أطلقها الحاخام الصهيوني “مائير كاهانا” حول الوجود العربي الفلسطيني في الأرض المحتلة مستخدماً نفس العبارات: (ضعوهم في شاحنات وألقوهم بعيداً خارج أرض اسرائيل).
*باحث ومؤرخ – سورية
زر الذهاب إلى الأعلى