“السيادة اللبنانية”والنفاق السياسي: ليست النقيصة ألاّ تكون سيّدا..ألنقيصة أن تكون عبداً (واصف عواضة)
كتب واصف عواضة – خاص الحوارنيوز
غالبا ما يتحدث اللبنانيون عن السيادة بحماس شديد ،ويطلقون القصائد المغنّاة وغير المغنّاة على شرفها ،حتى أن البعض من أهل السياسة ينعم على نفسه بلقب “السياديين”،وهم يعرفون جيدا أن لسيادة الدول شروطا وعناصر قد لا تتوفر في الغالبية العظمى من دول العالم،وربما تنحصر هذه العناصر اليوم في دولة واحدة فقط.
فلبنان “السيد الحر المستقل” عنوان جميل ،لكنّ لبنان نفسه ككيان جميل لا يصدق أنه “سيد وحر ومستقل”، في ظل عالم تحكمه المصالح والإقتصاد والثروات والفقر والغنى والعنصرية والقوة وغير ذلك من التعابير الواقعية.
ولنبدأ من أول السطر:
كيف يكون لبنان سيدا وحرا ومستقلا ،فيما تتلمس طاقاته السياسية والروحية والفكرية منذ سنتين ،”كلمة السر” من دول كبرى وإقليمية لانتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية “السيدة”(عفوا على كلمة إنتخاب)،وتتشكل لهذه الغاية لجنة خماسية عربية دولية ، ثم يأتيك البعض ليتحدث عن السيادة ؟..أوليس ذلك هو النفاق السياسي بعينه؟
وكيف يكون لبنان سيدا وحرا ومستقلا ،وأهله ينتقلون تاريخيا من وصاية إلى وصاية،ويتخاصمون ويتنابذون ويتقاتلون ويزايدون ويتباهون في ما بينهم ،على هوية هذه الوصاية ،بين شرقية وغربية ،مسيحية أو إسلامية،صديقة أم عدوة؟
كيف يكون لبنان بلدا سيدا وحرا ومستقلا وهو يستورد معظم سلته الغذائية والخدماتية من الخارج،وينسى أو يتناسى “السياديون” فيه مقولة جبران:ويل لأمة تأكل مما لا تزرع،وتلبس مما لا تنتج..”
الشرط الطبيعي للسيادة أولا وآخرا أن تكون لديك سياسة مستقلة. والمقصود بالسياسة هنا، المفهوم العام لإدارة النظام سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وتربويا ،إلى آخر المنظومة .. فهل لدى لبنان سياسة مستقلة؟..بل أكثر من ذلك من هي الدول التي تتمتع بسياسة مستقلة في العالم كي نقول أنها ذات سيادة خالصة؟
كانت للإمام الراحل الشيخ محمد مهدي شمس الدين نظرية طرحها في لندن أمام جمع من الصحافيين والإعلاميين اللبنانيين العاملين في بريطانيا عام 1995،وكنتُ قد نظمتُ لهم في حينه هذا اللقاء،فجاؤوا مستهولين مستنكرين مستفظعين غياب السياسة في لبنان في ظل “الوصاية السورية” على البلد في ذلك الحين.
وتحدوني الأمانة المهنية هنا أن أنقل حرفيا مضمون ما قاله الإمام شمس الدين ،والذي ورد في كتابي الصادر عام 2000 بعنوان “أميركا أميركا ..والآخرون”.
يقول الإمام الراحل: “تسألون لماذا ليس في لبنان سياسة، وأريد أن أسأل من جانبي : لو لم تكن سوريا جارتنا، وعلاقتنا بها على ما هي عليه، هل تعتقدون أنه كان يمكن أن يكون في لبنان سياسة؟ هل هناك في مصر سياسة؟ هل هناك في المغرب العربي سياسة؟ هل هناك في الأردن سياسة ؟ هل هناك في الخليج سياسة؟ هل هناك في روسيا سياسة؟ هل هناك في أفريقيا وشرق آسيا سياسة؟ وأريد أن أطرح عليكم أنتم سؤالاً واضحاً يا أهل الحرية والفكر والقلم .. لولا شغف المهنة التي تجذبكم، هل هناك في عملكم الصحافي بعد سياسة؟ إذن لماذا تعذيب النفس اللبنانية بمثل هذا المقدار؟” .
وأضاف: «هناك بلد واحد في العالم فيه سياسة، هو الولايات المتحدة الأميركية. وهناك قليل من السياسة هنا في أوروبا الغربية، ولعلكم توافقون معي أنها سائرة نحو الزوال. وهذا الأمر ناشئ ليس عن طبيعة العلاقة بين لبنان وسوريا، بل هو ناشئ نتيجة مناخ دولي جديد لم نتكيف معه بعد.. أنا متفق معكم على أن اللبنانيين في لبنان ليس عندهم سياسة، ولكن هل غير اللبنانيين عندهم سياسة ؟ السوريون لهم حاجات في لبنان والمنطقة. وأكبر هذه الحاجات هو الأمن والاطمئنان. وعندما يطمئن السوريون، سوف يتركون لبنان، ويتركون اللبنانيين يعيّنون أي رئيس جمهورية وأي مجلس نيابي وأي مدير عام. سوريا تُحكم الآن من مجموعة مقرات تبعد عن المدافع الإسرائيلية أقل من 35 كيلومتراً. فلماذا تطلبون من هذا المحكوم بالقلق أن يمنحكم كل هذا القدر من السياسة، مع العلم أن في لبنان قصوراً ذاتياً لا يُحتمل من قبل اللبنانيين الذين يذهبون إلى سوريا، ليس للبحث في تعيين رئيس جمهورية أو مجلس نيابي أو حكومة فقط، بل لتعيين رئيس مصلحة أو رئيس دائرة أو حتى ادخال طالب إلى الجامعة الأميركية» .
وخلص الإمام يومها إلى القول : لا يحلمن أحد بعد الآن بدور منفرد للبنان، لأنه لم يعد لأحد في العالم أدوار منفردة بعد الآن. والحل هو في أن يعمل لبنان على المساهمة في خلق صيغة تنظيمية مشتركة مع العالم العربي، يكون له فيها دور يتماشى مع طاقاته وإمكاناته .ومن هنا نادينا بوجوب إنشاء سوق عربية مشتركة”(إنتهى االإقتباس).
كان هذا الكلام قبل ثلاثة عقود بالتمام والكمال.فما الذي تغير منذ ذلك الحين؟ وهل تحسّن الوضع العربي والعالمي ،أم ساءت أموره أكثر فأكثر ؟ وماذا تبقى من السياسة والسيادة في العالم؟ وهل ثمة من يعتقد أن انتخابات حرة وديموقراطية كافية لإنتاج سيادة وحرية واستقلال؟
كي لا نذهب بعيدا في جلد أنفسنا ،ونعرّي ذاتنا من القيم الإنسانية نقول:إن العلاقات الدولية والحاجات الضرورية للدول تفرض في الكثير من الأحيان تنازلات متبادلة براغماتية توهن معنى السيادة الكاملة ،لكن بحدود منطقية معقولة.أما أن تكون “سيدا حرا مستقلا” على الطريقة اللبنانية ،فمسألة فيها نظر تندرج في خانة النفاق والنكد السياسي.
وفي الخلاصة ،ليست النقيصة في ألاّ تكون سيّداً ..النقيصة في أن تكون عبدا ..
كل عام وأنتم بخير ، والسلام على من اتبع الهدى!
ليس نقيصة أن لا تكون سيدا ..النقيصة أن تكون عبدا