الردع الاستراتيجي ومخاوف الحرب الشاملة (فرح موسى)
بقلم أ.د فرح موسى – الحوار نيوز
يكاد يُجمع أهل السياسة وخبراء الاستراتيجيا على أن الحرب الشاملة ليس لها ظروفٌ مؤاتية،وإن كانت مقدماتها باديةً؛ولكنهم يخشون من خطأ قاتل في لحظة حاسمة تمنع من الاستدراك،وترمي بالجميع في أتون الحرب والنار.ولهذا،فإن ما يتوعّد به محور المقاومة من ردع استراتيجي على الاغتيال في بيروت وطهران،ليس هادفًا إلى إثارة الحرب،وإنما الغاية من ذلك تحقيق الردع،بحيث يمتنع العدو عن التمادي في العدوانية.
وهنا يمكن لكل متابع أن يسأل،هل أن محور المقاومة لا يزال على قناعته بأن رئيس حكومة العدو هو وحده المستفيد من توسع الحرب؟وماذا لو كانت أمريكا شريكته في كل عدوان يُقدم عليه؟ ويبقى السؤال الأهم،ما هي ضمانة أن لا يستغل العدو فرصة الضربة الردعية لممارسة عدوانيته في كل اتجاه؟.. فإذا قلنا:إن الرد المنسق والمدروس هو الذي يحول دون ذلك.قلنا: إن الرد المنسق والمحكوم بتفاهمات مسبقة لا يشكل ردعًا،ولا يمنع عدوانًا!وذلك بدلالة أن العدو لم يرتدع من رد الوعد الصادق،بل نجده قد أقدم على عدوان أكبر منه،فاغتال في بيروت وطهران،وتفرعن إلى حد الزعم أنه الأقوى والأقدر على أن يطال الخواصر الرخوة حيث يشاء!؟..فالعجب كل العجب من مقولة خبراء الدولة والأمة معًا،أنهم لن يعطوا لحكومة العدو فرصة الحرب الشاملة،ثم يعقّبون على ذلك بممارسة الحق الشرعي والقانوني في الردع الاستراتيجي!ولسنا ندري كيف يمكن لردع قوي أن يمنع من توسعة الحرب، لتكون شاملةً؟فإما أن يكون الردعُ حاسمًا،وغير منسق مع أحد،لتكون له مفاعيله الردعية،والاستعداد لكل ما قد يترتب عليه من أحداث وتداعيات.وإما أن نقلع عن مناورات الردع النفسي والشكلي، وخصوصًا بعد أن اعتاد العدو على هكذا أنواع من الردود منذ عشرات السنين،فهو كان يقتل في سوريا والعراق وإيران،ويستهدف مؤسسات وعلماء نوويين،ثم ينطوي على ذاته منتظرًا،ويفوز بعدوانه منتصرًا!
فالحرب الشاملة ليست مجرد رغبة،أو جموح متفلّت من عقال الحسابات والنتائج الاستراتيجية،وإنما هي قرار كان وسيبقى سقفه حماية العدو والأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط،وإسرائيل تشكل جوهرًا لهذا الأمن وروحًا له!فإذا كان لا بد من الردع الاستراتيجي،فلا بد من لحاظ ظروف المنطقة والتحولات المشهودة فيها بعد طوفان الأقصى،وذلك لما أحدثه من انعكاسات وقلق وجودي على كيان الاحتلال.فأمريكا معنية بالحرب قبل أدواتها،فإذا ما وجدت أن الردع سيؤدي إلى إضعافها،فهي لم ولن تقبل بأن يتحول فعل المقاومة وردها الردعي إلى فعل استراتيجي قاتل لدور الكيان ووظيفته في المنطقة.وهذا ما طالعتنا به السفن والبوارج الحربية؛أنها جاءت للدفاع عن الكيان الصهيوني إزاء ما يمكن أن يتعرض له من تهديد،أو عدوان،وهذا بذاته هو مؤشر لحرب كبرى تبشّرنا بها الولايات المتحدة!
وكما رأينا سابقًا أن تنسيق الردود ووضع أسقف وحدود لأي ردع يفقده معناه،ويجعل منه ترتيبًا غير ذي جدوى في سياق التأسيس للفعل الاستراتيجي.فكل شيء مرهون إلى طبيعة الردود وما يمكن أن يترتب عليها من أحداث،ونحن ما زلنا نرى أن أمريكا هي التي تحارب وتقتل في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا،وغرفة عمليات الناتو هي التي ترسم خطط وخرائط الحروب في المنطقة،فكيف تسنى لمجموعة من أهل الإعلام والخبرات الاستراتيجية إطلاق الأحكام المبرمة بأن محور المقاومة لا يمكنه منح العدو فرصة الحرب الشاملة،وكأن أمريكا لا تريد هذه الحرب،ولا تسعى إليها لحماية ربيبتها إسرائيل وأمنها القومي المترنح على أبواب غزة وفلسطين!
فالقول بأن الحرب الواسعة غير ممكنة،وتحتاج إلى حسابات معقّدة، وأن العالم لا يحتملها،قولٌ مبنيٌ على توهين في السياسة،وعلى تخيّل في فهم المعطى الاستراتيجي،الذي كشف عنه طوفان الأقصى.فعقدة الوجود وضمانة الدور المحوري للعدو تجعل من كل شيء ممكنًا،بما في ذلك الحرب الشاملة،وذلك لضرورة أن هذا العدو قد التبس عليه الموقف في وجوده،فكيف يطمح إلى أن يكون له دور ووظيفة استعمارية لحماية مصالح الغرب في المنطقة!؟
فالغرب وعلى رأسه أمريكا لا يريد أن يضع نفسه بين خيار الشخص الحاكم للكيان،وبين خيار حماية الكيان،فالكل واحد بنظر الغرب،وهو يعمل لأجل أن يكون هذا الكيان بمأمن عن أي تحولات تهدد مصيره ودوره،وقد سأل الكثيرون من الخبراء عما يمكن أن تختاره أمريكا فيما لو وجدت نفسها أمام خيار اليمين الحاكم في إسرائيل،وبين خيار الحرب الكبري؟.. هي حتمًا ستختار الحرب الكبرى،وذلك إنما يكون منها، لاعتبار أن الكيان في داخله لا يحتمل صراعات الوجود بين أحزابه! نعم،قد يقال:إن الرهان في استبعاد الحرب،ناشيء عن كون مصالح الغرب لا تحتمل حربًا شاملة،فيأتي الردع الاستراتيجي ليضع حدًا لعدوانية الكيان،ويمكن للردع أن يمر تحت ضغط الخوف على المصالح،ولكن هذا يبقى من التكهن السياسي غير المبني على أسس علمية،إذ لم يحصل يومًا أن الغرب المستعمر خاف على المصالح المادية الآنية أمام استحقاقات الاستراتيجية!؟ فلتكن الحسابات وفق موازين الفهم الدقيق لأطماع الغرب في المنطقة،وأدنى تدبّر في ما يتصدّر الانتخابات الأمريكية من عناوين،لا بد أن يُظهر مدى الحرص على ما تراه الدولة العميقة من أهمية لوجود هذا الكيان الصهيوني في الشرق الأوسط.فهذا الكيان له حاكمية الموقف في الدولة العميقة في أمريكا والغرب كله؛ فلا ينبغي تجاهل هذا المعطى في ما يراد فعله والقيام به من ردع استراتيجي ضد الكيان الصهيوني .والسلام.