الردع الإيراني بين ثوابت الثورة ومتغيّرات الدولة(فرح موسى)
بقلم أ.د فرح موسى – الحوار نيوز
منذ ثلاثين عامًا صدر كتابنا،بعنوان:”فقهاء السلطة وسلطة الفقهاء عند الإمام الخميني”.وقلنا في مبحث الولاية:إن الثورة الإسلامية انطلقت في واقع الأمة وحياتها على أساس ثوابت في الدين لا تتغيّر ولا تتبّدل مع الزمان والمكان،بل هي الحاكمة عليهما،ويأتي في طليعة هذه الثوابت أن الإسلام هو دين القيِّمة، عقيدة، وشريعة، ونظام حكم،وقد اختارت الأمة الإسلامية في إيران أن تكون ناطقةً بهذا الدين،وصادرةً عنه في جميع شؤونها.
وهذا ما حتّم ضرورة انبثاق النظام الإسلامي،ليكون ترجمةً وانعكاسًا لثوابت الدين في حياة الأمة.وبما أن الإسلام في ثوابته ينادي بالولاية،فقد جاء التأسيس،في الثورة والدولة،لاحظًا لحقيقة هذه الولاية، وذلك على قاعدة،كما بين الإمام الخميني في كتاب الحكومة الإسلامية، أن الفقيه العالم والعادل والجامع للشرائط له ما للمعصوم من حيث الوظيفة العملية.وهكذا جاءت الثورة لتعبر عن حقيقة هذا الالتزام الولائي، فلم تعد الأمة مجرد تعبير ديني،أو ثقافي،أو غير ذلك مما تتقوّم به المجتمعات الإنسانية، بل تجاوزت أطر التشكّل الثوري،لتتمظهر ولائيًا،وتتحقق وجوديًا بسلطة الأمر والنهي الولائيين من خلال الالتزام الحقيقي بالتكاليف الإلهية في كل ما تفترضه هذه التكاليف من تحققات ولائية على نحو ما جاء في الرواية عن أهل العصمة،أن الولاية هي المفتاح والدليل للفرائض والأحكام.
وقد أوضحنا في كتابنا المعهود،ما أرشدت إليه سورة المائدة في بداية تأسيساتها في ما عرضت له عن يأس الكفار وإكمال الدين،فهي تبيّن أن جوهر الانتماء الولائي، يبقى غير ممكن ما لم تتحقق الأمة بالرؤية العملية في واقع كونها تنتمي إلى الإسلام في النظرية والتطبيق معًا.ولهذا نجد في كتابنا الكثير من الأسئلة للفقهاء وعلماء التفسير عن أسباب يأس الكفار في لحظات تاريخية حاسمة من عمر الرسالة الإسلامية!؟وقد رأينا أن الولاية هي التي تجيب على أسئلة الأمة،وخصوصًا في دائرة الالتزام الديني لجهة صدور الأمر والنهي بالشكل الذي يؤدي إلى يأس الكفار،وإلا لما كان ثمة سبب ليأسهم فيما لو كان الأمر مجرد أمر ونهي!؟هذا أولاً.
ثانيًا: إن انتصار الثورة الإسلامية في إيران شكّل انبعاثًا حقيقيًا للولاية في واقع الأمة،وأعطاها فرصة إقامة مؤسسة الدولة.فإذا كان لهذه الدولة من دور أو وظيفة،فهي إنما تكون لها وفقًا لثوابت الثورة ومبادئها،ومهما كانت المتغيّرات،فإنها تبقى محكومة لثوابت الدين والولاية، وذلك لما عرفناه من أن الإسلام لا يُنشيء دولته من خارج انتماء الأمة ورؤيتها الدينية والولائية.أما أن تتحول الدولة إلى كيان مستقل عن الأمة في ما تؤسس له من رؤى ومواقف،فهذا يخرج الدولة عن كونها دولة الأمة،لتكون دولة الواقع وضروراته!فتكون الدولة مقابل الأمة ونقيضًا لها في شؤون الإدارة والسياسة،وهذا ما منع منه الإسلام بلحاظ تقييده لمعطيات الأمن والخوف بسلطة أولي الأمر،كما سنبين لاحقًا!!!
ثالثاً: يمكن للباحث في ضوء ما تقدّم استيعاب حقيقة الموقف في ما تقتضيه مصالح الدولة الإسلامية،وخصوصًا في مجال الردع الاستراتيجي الذي ينشده الإسلام وفق مستطاع الأمة،بحيث تكون للمؤسسات كافة،بما فيها مؤسسة الدولة، فعالية تحقق الردع لحماية المباديء والمصالح ونيل المبتغى من إعداد القوة،التي تبدأ من وعي الأمة ولائيًا،وتنتهي بتدبيرات الدولة في مجال الإعداد المادي لصد العدوان.فإذا كان ثمة متغيرات تفرض على الدولة انتهاج مسلك المناورة السياسية،أو الاقتصادية،أو غير ذلك،فإن الولي الفقيه بما يمثله من امتداد ولائي للعصمة عمليًا،هو الذي يحكم على ما تقتضيه المصالح والمبادىء من ضرورات ،والتزامات،ومناورات،وليس للحاكم السياسي وفق آليات عمله التدبيري(التنفيذي)،انتهاز فرصة المناورة السياسية ليجعل منها ثوابت دينية تحت عناوين إصلاحية وتحديثية،أو متغيّرات حاكمة على مسلكيات الأمة اتجاه الأعداء والمنافقين!وقد علمنا أن الإمام علي ع،رفض وجه الحيلة من الحوّل القلّب إذا كان دونها مانع من أمر الله أو نهيه،مبيّنًا أن مَن لا حريجة له في الدين ينتهز فرصتها،غدرًا ودهاءًا،وإصلاحًا في الدين والسياسة.!!!!
رابعًا: إذا كان الردع الاستراتيجي يتطلب وعيًا ولائيًا بأهداف وتطلعات الأمة،فإن ما تمثله الولاية العملية العادلة من روح والتزام ووعي بمقتضيات المصالح والأهداف والتحولات العالمية،يجعل منها أساًسًا لحركة الأمة والدولة معًا،وقطبًا مركزيًا في إدارة الأزمات لأن الله تعالى أمر برد الأمور إلى ولاية الأمر في كل زمان،كما قال تعالى:”وإذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به،ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم…”. فالولاية هي امتداد عملي للرسول والرسالة،فإذا كانت إيران تنشد ردعًا استراتيجياً فاعلًا ومؤثرًا، فلتستمر بنداء الولاية،وتحبط مزاعم الإصلاح والحداثة على أبواب عالم أثقلته السياسة بالكفر والنفاق. والسلام.
- رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات.