رأي

الرئيس برّي.. هندسةُ المخارج وصناعةُ التوازنات في زمن الأخطار الكبرى (أكرم بزي)

 

كتب أكرم بزي – الحوارنيوز

 

لم تكن مواقف الرئيس نبيه برّي الأخيرة مجرّد تصريحات عابرة في لحظة سياسية محتقنة، بل بدت امتدادًا طبيعيًا لدورٍ كرّسه الرجل خلال عقود، كأحد أبرز مهندسي التسويات وصانعي المخارج حين تستعصي الحلول على الجميع. فمن يعرفه يدرك أنّه لا يتحدّث من فراغ، ولا يغامر بكلمة غير محسوبة. خلف كل موقف يقف تاريخٌ من التجارب، وحسٌّ سياسيّ تراكميّ، وحنكة قانونية تتيح له قراءة اللحظة الدقيقة وفهم اتّجاه الرياح، لبنانياً وإقليمياً معاً.

يُسجَّل للرئيس برّي أنّه كان، على الدوام، نقطة الارتكاز التي تعبر عبرها أي تسوية أو اتفاق داخلي، سواء في ذروة الانقسامات الحادة إبّان الحرب الأهلية، أو في المراحل الانتقالية اللاحقة، أو في مواجهات كبرى مثل حرب تموز 2006.

الحوار الوطني، واتفاق الدوحة، وترتيب العلاقات بين القوى السياسية بعد كل هزّة، كلها محطات أتقن فيها الرجل لعبة تدوير الزوايا وجمع المتخاصمين فوق طاولة واحدة، ولو للحظات.

ولطالما شكّل مع الزعيم وليد جنبلاط ثنائيًا استثنائيًا في الحياة السياسية اللبنانية؛ ثنائيًّ جمع بين حسٍّ سياسي مرهف وقدرة عالية على قراءة التحوّلات لدى جنبلاط، وبين البراعة القانونية والبرلمانية لدى برّي. كلاهما كان يمتلك القدرة على قراءة الساحات الإقليمية، ورصد التحوّلات قبل حدوثها، خصوصًا بما يخص الصراع مع العدو الصهيوني وتداعياته على الداخل اللبناني.

ففي حرب تموز 2006: لعب دورًا محوريًا في حماية الداخل من الانهيار السياسي، وإعادة تثبيت المعادلة الوطنية رغم حجم العدوان.

وفي الأزمات الحكومية المتعاقبة: غالبًا ما كان مفتاح الحلّ، سواء عبر فتح قنوات الحوار أو جمع الأطراف المتباعدة.

وفي الوساطات الإقليمية – الدولية: قدرته على التواصل مع جميع اللاعبين جعلت منه جسرًا لا يمكن تجاوزه.

اليوم، وفي ظل استكمال الجيش اللبناني انتشاره في منطقة جنوب الليطاني، تتجدد الأسئلة حول حماية القرار الوطني، وضرورة تثبيت معادلة دفاعية واضحة تمنع استغلال هذه الخطوة في اتجاهات قد تُضعف قدرة لبنان على مواجهة التهديدات الإسرائيلية.

وفي هذا السياق، برزت مواقف الرئيس برّي الأخيرة ردًا على التصريحات الملتبسة للمبعوث الأميركي توماس براك، ولا سيما تلك التي لامست فكرة إعادة ربط لبنان بسوريا أو وضعه ضمن خرائط جديدة للمنطقة. فقد رفع برّي سقف الكلام بوضوح قائلاً: «ما حدا يهدّد لبنان»، في رسالة حاسمة تؤكد أن سيادة البلاد ليست مادة للتفاوض، وأن لا طرف خارجيًا – مهما كان نفوذه – يملك حق المسّ بالكيان اللبناني أو إعادة تعريف موقعه ودوره. هذه العبارة لم تكن انفعالًا عابرًا، بل تثبيتًا لمعادلة سياسية – وطنية بأن لبنان يُدار من داخله، لا من غرف التخطيط الدولية.

انطلاقًا من هذه الوقائع، يبرز الواجب الملحّ على رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة لطرح رؤية وطنية موحّدة، بوصفها ركيزة لحماية البلاد في مرحلة تتشابك فيها الأخطار وتتداخل فيها حسابات الحرب والسلام.

هذه الرؤية يجب أن تشمل:

  1. تعريف الخطر الحقيقي.
  2. تثبيت دور الشعب ضمن استراتيجية دفاعية متفاهم عليها.
  3. ضمان حماية الجيش خلال انتشاره جنوب الليطاني.
  4. منع تحويل الملف إلى صراع سياسي داخلي.

في زمن الضوضاء السياسية والانقسامات، يبقى الرئيس برّي أحد آخر الجسور التي تربط المشهد اللبناني ببعضه، بفضل شبكة علاقاته الواسعة وقدرته على إدارة النزاعات.

لبنان أمام مرحلة مفصلية تتطلب وحدة القرار الوطني. إنّ قراءة الرئيس برّي ليست تحذيرًا فقط، بل خارطة طريق لحماية البلاد من الانزلاق وتثبيت عناصر الصمود الوطني.

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى