الذكرى 38 لانطلاقة المقاومة: يوم يحفر في الذاكرة
كتب محمد هاني شقير:
في مثل هذا اليوم قبل 38 عامًا كان لبنان تحت النار، وكانت طائرات ودبابات جيش العدو تسيطر على الأجواء والأرض اللبنانية، وفيما كانت قوات الثورة الفلسطينية تغادر بيروت نحو تونس، عزم الوطنيون اللبنانيون على المواجهة، وحزموا أمرهم، وأعلنوا أن الهزيمة مؤقتة، ولن تدوم. فاجتمع جورج حاوي ومحسن ابراهيم في منزل كمال جنبلاط، ولم يتمكن قادة القومي والبعث وحزب العمل الاشتراكي العربي من الوصول بسبب الظروف الأمنية، فكان بيان تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) في السادس عشر من أيلول.
قبل ذلك، حصلت عدة معارك تكبد فيها العدو خسائر في العديد والعتاد، وكانت المواجهات القوية في خلدة حيث سُطرَت فيها معارك بطولية بمشاركة مقاتلين من حركة أمل والحزب الشيوعي وقوى لبنانية وفلسطينية، وفي محور الجامعة اللبنانية فسقط في هاتين المعركتين شهداء بعضهم لا زالت رفاتهم مفقودة حتى يومنا هذا، وتتابعت المواجهات في محور المتحف وامتدت نحو كورنيش المزرعة، ليسقط في آخر المواجهات وأولها الشهداء قاسم الحجيري وجورج قصابلي ومحمد مغنية في بيروت في 15 و 16 ايلول 1982.
في هذا الوقت الملتبس بدأت قوى سياسية لبنانية ترتب موقعيتها الجديدة لتتأقلم مع الأهداف التي رسمها العدو، وكانت هناك إرادة مختلفة عند قوى أخرى آثرت اللجوء الى خيارٍ ثوري مستمسكةً ببقعة ضوءٍ صغيرة لمعت في أفق سماء بيروت، لترسم طريقًا وهاجةً لثلة من المناضلين الحالمين الذين وصفوا آنذاك بالمجازفين.
إذًا اشتعلت بيروت قبل أن يشعر المعتدون بالسكينة، ونفذ المقاومون في خلال بضعة أيام، أكثر من 15 عملية بطولية، بدأت قرب صيدلية بسترس مرورًا بمحطة أيوب وكورنيش المزرعة والجناح وكان أقواها تلك التي نفذها الشهيد خالد علوان ورفيقيه في مقهى الويمبي في شارع الحمراء فقتل ضابطان وجندي، وتصاعدت العمليات في بيروت الى أن خرج صوت جنود الاحتلال من شوارعها: "يا أهالي بيروت لا تطلقوا النار علينا، إننا منسحبون".
تلك كانت بدايات سقوط الاحتلال وبشائر هزيمته، ومع اتساع العمليات ولكثرتها على طريق الساحل بين صيدا وبيروت، سميت بطريق المناضل الفيتنامي هوشي منه، واستهدفت المقاومة الدوريات الاسرائيلية في منطقتين أراد العدو وسمهما بطابع ليس من طينتها، فاستهدفه المقاومون في الحدث وصوفر، وكان هذا فاتحة عمليات في تلك المناطق التي بدأ العدو بالانسحاب منها بشكل تدريجي؛ فخرج من الجبل وطريق الساحل وصيدا وصور والنبطية وجزء كبير من مناطق البقاع الغربي وعدة قرى في قضائي بنت جبيل ومرجعيون، ليحشر جيشه في ما سمي الشريط الحدودي المحتل. وهناك لم يهنأ له بال، فاستمرت المقاومة واتسعت وشكل انضمام المقاومة الاسلامية إليها رافدًا قويًا ونوعيًا، وحصلت عدة عمليات مميزة في الشريط المحتل بينها: محاولة قتل انطوان لحد التي خلخلت معنويات عملائه، وتدمير إذاعة " الأمل"، فضلاً عن قتل رجل المخابرات الاميركية روبنسون الذي كان بدأ يؤسس لبناء مستوطنة في منطقة راشيا الفخار، وليس آخرًا بقتل كبير العملاء عقل هاشم. ومع الوقت تراكمت العمليات وعنفت وصارت تلال وجبال الجنوب شعلة نارٍ ملتهبة بين أقدام جيش العدو وعملائه، فاضطر مرغمًا أن يجرجر أذياله مهرولاً في 25 أيار 2000 تاركًا خلفه عملاءه بين نذالتهم وإهماله لهم.
الحرب مع العدو لا تتوقف وتأخذ أشكالاً مختلفة، ومن أهمها قيام دولة وطنية مكتملة العناصر، وفي مقدمها بناء اقتصاد وطني منتج لا ريعي يؤمن مقومات الصمود والمواجهة ويمنع المستعمر من تحقيق ما عجزت عنه اسرائيل، كما ويمنح الشعب الذي قدم الغالي والنفيس، حقه في العيش بكرامة.
إنه التحدي الذي لم يستطع اللبنانيون، مع الأسف، حتى يومنا هذا، تحقيقه، بل بالعكس، وقعوا في شرك السلطة ومغرياتها، وبدل أن يبنوا بلدًا معافى تلهوا بمحاصصاتهم حتى بلغت مديونية لبنان مئة مليار دولار فيما توج الفساد عنفه بذلك الزلزال الذي تمثل بانفجار مرفأ الأمونيوم.
مرةً جديدة يجد اللبنانيون أنفسهم محاصرين بين سياسة أميركية استعمارية تريد تطويع العالم العربي ولبنان منه، وبين طبقة سياسية كل همّها المحافظة على مصالحها الخاصة. فهل يدرك القيّمون أن موت الوطن هو موتهم أيضًا، ويبادرون من فورهم، الى اعلانه وطنًا ديمقراطيًا الدين فيه لله والوطن للجميع؟