الذكاء الاصطناعي التوليدي في التعليم: بين أداة للتحرر ومخاطر التبعية (ميلاد السبعلي)

د. ميلاد السبعلي* – الحوارنيوز

يمرّ التعليم في لحظة مفصلية.
ليست المسألة في جوهرها متعلّقة ببرمجية جديدة أو أداة متطوّرة ظهرت في السوق.
ما نشهده اليوم مع الذكاء الاصطناعي التوليدي GenAI) )هو تحوّل جذري في بنية المعرفة وعلاقة الطالب بذاته ومعلّمه وعالمه.
للمرّة الأولى، يستطيع الطالب أن يحصل على إجابة نموذجية، مكتوبة بلغته، في لحظتها.
لكن للمرة الأولى أيضًا، يتهدّد وجود السؤال نفسه:
هل ما يُقدَّم له هو معرفة؟ أم محاكاة للمعرفة؟
هل هو تعلّم؟ أم ترويض ذكي لوعيه ليكتفي بما هو جاهز؟ هل تمكّننا هذه الأدوات من التفكير؟ أم تغرينا بالتخلّي عنه؟
هل ما نراه هو نعمة التعلّم المفتوح أم خدعة الهيمنة الناعمة؟
هل الأداة ما زالت مرآةً للعقل… أو بديلًا عنه؟
في هذا المقال، سنأخذ خطوة للوراء، ونتأمّل في الوجهين: وعد التمكين وخطر الاستلاب، مستعرضين لتجارب دولية، ولمخاوف بعض الذين يرون في هذه الأدوات “امتدادًا رقميًا للإمبريالية الثقافية”.
وهذا يستدعي منا كأهل تربية وفكر وثقافة، إعادة تشكيل علاقتنا بالأداة، كي لا نتحوّل من مستخدمين للتقنية، إلى موضوعات مفعول بها داخل معادلتها.
أولًا: ما الذي يقدّمه الذكاء الاصطناعي فعلًا؟
من الظلم أن نتعامل مع GenAI كشيطان معرفي فقط.
فحين يُستخدم بوعي، يتحوّل إلى أداة خارقة في يد الطالب والمعلم والإدارة التربوية.
- التعلّم الشخصي Personalized Learning، والمتاح دائمًا
واحدة من أكبر ثورات الذكاء الاصطناعي هي قدرته على جعل التعلّم شخصيًا. حيث يسمح للطالب بأن يتعلّم بسرعته الخاصة، وفق مستواه، بلغته، وبأسلوب يختاره. إنه الديمقراطية التعليمية بأقصى صورها… إنه توفّر الوعي.
لم يعد الطالب مضطرًا لانتظار المعلم أو الكتاب المدرسي. يستطيع أن يطلب شرحًا مبسّطًا أو متقدّمًا، أمثلة واقعية، أو حتى محادثة تفاعلية حول موضوع معين.
في مجتمعات تعاني من ضغط الصفوف، وقلة عدد المعلمين، أو ضعف في جودة التدريس، تصبح هذه الأداة طوق نجاة حقيقي.
مثال من فنلندا: يتم تدريب المعلمين على توجيه الطلاب لاستخدام GenAI كمساعد شخصي في حل الواجبات وتعلّم المفاهيم الصعبة، ضمن بيئة تربوية منضبطة. ويستخدمه الطلاب لتقديم دعم شخصي تحت إشراف تربوي مدروس، كجزء من التعليم المدمج لا كبديل عن المعلم.
- تحسين مهارات الكتابة والتعبير والتحليل
يشتكي الكثير من المعلمين من ضعف مهارات التعبير والكتابة لدى الطلاب، خاصة في المراحل الثانوية والجامعية.
لكن GenAI يمكن أن يتحوّل إلى مرآة ذكية تساعد الطالب على تحسين جمَلِه، وتجنّب الأخطاء، وفهم بُنية المقال الأكاديمي، بل وحتى توليد أفكار أولية يمكنه البناء عليها بأسلوبه الخاص.
ليس الهدف أن يكتب الطالب فقرة “أجمل”، بل أن يتعلّم من خلال النموذج المولّد كيف يُبنى النص، ويُصاغ المنطق، وتُدعم الحجة.
في هولندا، يتم توجيه الطلاب إلى استخدام أدوات AI لتحسين نصوصهم، كأداة نقد للذات وتحرير فكري، لا كآلة لإنتاج الأجوبة. شرط أن يرفقوا توضيحًا لمساهمتهم الشخصية، فيتحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة غش إلى أداة تعلّم نقدي.
- توسيع أفق الطالب وتشجيع الفضول المعرفي والاستكشاف الذاتي
الذكاء الاصطناعي، حين يُسأل بذكاء، لا يعطي إجابة فقط، بل يفتح أبوابًا للأسئلة.
فطالب يقرأ عن تغير المناخ يمكنه أن يسأل عن تأثيره على بلده، ثم على المحاصيل، ثم على السياسة الزراعية… وهكذا يولد لدى الطالب فضول بحثي يتجاوز حدود المنهاج. وعندما يقرأ عن مفهوم معين، يمكنه السؤال عن علاقة هذا المفهوم بالتاريخ؟ ما آثاره على مجتمعي؟ كيف يمكن مقارنته بثقافتي؟
سنغافورة نموذج رائد: تستخدم مدارسها المحادثات الذكية مع GenAI لمحاكاة النقاشات والمناظرات، وتحفيز الطلاب على التفكير من زوايا مختلفة، ما يعزز مهاراتهم الفكرية والاجتماعية، ويساعدهم على تطوير مهارات البحث والتفكير النقدي المتعدّد الأبعاد.
- دعم المتعلّمين من خلفيات مهمّشة: تعليم أكثر عدالة وإنصافًا
كثير من الطلاب يعانون بصمت: صعوبات تعلم، تشتت، ضعف في اللغة، أو إعاقة بصرية أو سمعية.
يكون GenAI قادرا على تكييف المحتوى ليتناسب مع كل طالب: قراءة صوتية، تبسيط لغة، تلخيص بصري، وحتى تنظيم الوقت.
فمن يعاني من صعوبات تعلم، أو يعجز عن الوصول إلى مدرس خاص، يجد في الذكاء الاصطناعي أداة لتمكينه من اللحاق لا الاستسلام.
كندا سبّاقة في اعتبار GenAI أداة دعم تربوي، تدمج ضمن خطط التعليم الفردي للطلاب ذوي الاحتياجات الخاصة.
- تحسين العمل المؤسسي التربوي برمّته
من متابعة تقدم الطلاب، إلى تنبيه المعلمين حول تطور أداء الطلاب، إلى تحليل الفجوات وتحديد مخاطر الرسوب مسبقاً، إلى تيسير الإرشاد الأكاديمي… كلها مسائل تتم معالجتها من خلال استخدام الذكاء الاصطناعي التوليدي.
في أستراليا واليابان، طُوّرت أنظمة تعتمد GenAI للكشف المبكر عن التسرّب، ومساعدة المعلم على اتخاذ قرارات استباقية.
ثانيًا: حين تفقد السيطرة – المخاطر الحقيقية.. ومن المسؤول عنها؟
ليست الأداة هي الجاني.
لكن حين نستخدم الذكاء الاصطناعي دون وعي نقدي، أو نسمح له بتحديد شكل المعرفة، نكون نحن من هيّأ له بيئة الهيمنة الناعمة.
- التحايل والغش وتآكل النزاهة التربوية
أكبر مخاوف المعلمين اليوم هو أن يستخدم الطلاب GenAI لكتابة وظائف كاملة، أو لحل الامتحانات دون بذل أي جهد حقيقي.
النتيجة؟ خريجون بلا مهارات، ودرجات لا تعبّر عن الجدارة.
لكن الحل ليس في المنع المطلق، بل في التوجيه والمكاشفة.
وليس الطالب من يجب لومه فقط، بل نظام تقييم لا يزال قائمًا على الاستظهار، لا التفكير.
في بريطانيا وأستراليا، شرّعت قوانين تعليمية تطالب الطلاب بالإفصاح عن استخدام الذكاء الاصطناعي، وتقديم شرح لكيفية الاستفادة منه دون خداع، ودمج التقييم الذاتي كجزء من الوظيفة.
- تراجع التفكير النقدي وانطفاء الأسئلة
حين تُصبح كل الإجابات جاهزة، يموت السؤال.
وحين لا يُدرّب الطالب على “التحقّق من الذكاء”، يستسلم له.
وعندما تُعطى الإجابة دون سؤال، والرأي دون تحليل، فإن الدماغ يضعف.
الاعتماد الزائد على GenAI بشكل خاطئ قد يقتل ملكة الشك، ويشجع على الاستسلام المعرفي.
اليابان واجهت هذه المشكلة بذكاء: أدخلت مادة “محو أمية الذكاء الاصطناعي” كمكوّن أساسي في المناهج، حيث يتعلم الطلاب كيف يفككون الإجابات، ويبحثون في خلفياتها، ويقارنونها بمصادر أخرى.
- التحيّز البنيوي للمحتوى المُنتَج
لا حياد في المعرفة، ولا في اللغة.
الذكاء الاصطناعي يتدرب بشكل أساسي على بيانات ونصوص الغرب. وهو بالتالي لا يخلو من الأخطاء أو الانحيازات الثقافية. فهل ينقل إلينا صورًا مشوّهة عن قضايا العدالة؟ عن فلسطين؟ عن تاريخنا؟ عن القيم؟
علينا أن نطرح هذه الأسئلة بشجاعة، لا بنفي تلقائي ولا تبعية خرساء.
الاتحاد الأوروبي ركّز على تعليم “التحقّق الرقمي” كمهارة أساسية، تعلّم الطلاب كيف يفككون النصوص ويتأكّدون من مصداقيتها ومصدرها.
- توسيع الفجوة بدل ردمها
ليس كل طالب يملك إنترنت سريعًا أو هاتفًا حديثًا.
وهنا يظهر خطر أن يتحوّل الذكاء الاصطناعي إلى امتياز طبقي، لا حق تعليمي. فمن لا يملك إنترنت، أو حاسوبًا، أو مهارات رقمية… سيزداد تهميشه، حتى لو كانت أداة الذكاء الاصطناعي مجانية.
إستونيا تعاملت مع التحدي بواقعية: أنشأت أدوات GenAI وطنية ومجانية، وطوّرت بنية تحتية تعليمية رقمية شاملة، وأطلقت مبادرة لتوصيل الإنترنت عالي السرعة إلى كل مدرسة، بحيث تضمن وصول الذكاء الاصطناعي إلى الجميع بعدالة.
ثالثًا: ما الذي نحتاجه لتبنٍّ مسؤول وفعّال؟
المطلوب ليس فقط أن نسمح باستخدام الأداة، بل أن نصمّم الإطار الذي يجعل استخدامها أداة للتحرر لا للترويض.
- إطار تربوي واضح
– وضع سياسات تربوية تُفرّق بين الاستخدام الأخلاقي والغش.
– إلزام الطلاب بالتصريح عند استخدام GenAI.
– اعتماد تقويمات معاصرة تركز على الإنتاج الذاتي، والمشاريع، والتفكير، وتدمج التحليل والمشاريع والعرض الشفهي.
- تأهيل المعلمين كمهندسي معرفة ذكية
– تدريب المعلمين على “هندسة الأسئلة” لاستخدام الذكاء الاصطناعي داخل الصف.
– تطوير أدوات تعليمية تستخدم GenAI كمساعد تخطيطي وتحليلي لا فقط مولّد محتوى.
– تدريب المعلمين والإداريين ليصبحوا “معماريي تعلم ذكي”.
- بناء بنية تحتية تقنية ومعرفية
بناء بيئة متكاملة تضمن الأمان، الخصوصية، والكفاءة المؤسسية، وتتضمن:
– منصة موحدة
– واجهات آمنة
– تحليل وتخزين بيانات
– وحدة مراقبة جودة تربوية
- دمج الذكاء الاصطناعي في المناهج كمجال معرفي مستقل
– تدريس الذكاء الاصطناعي نفسه: أنواعه، مخاطره، وأخلاقياته، كمادة مستقلة.
– تعليم الطلاب كيفية كتابة “مدخلات -أي أسئلة وحورات- ذكية ” Prompting) )لا فقط قراءة المخرجات والأجوبة.
– يجب أن يكون GenAI جزءًا من الدراسة الحديثة للطالب، لا مجرد أداة يستخدمها في الخفاء.
– دمج GenAI بذكاء داخل المناهج، لا كبديل للمعلم، بل كشريك في التعلّم.
- شراكات بين الجامعات وسوق العمل
– تطوير مهارات الطلاب للتعامل مع الذكاء الاصطناعي في الوظيفة، وفي جميع الاختصاصات، وفي التوظيف، والمقابلات.
– دعوة الشركات للمشاركة في تحديث المناهج وإدخال متطلبات سوق العمل.
رابعًا: هل الذكاء الاصطناعي مؤامرة فعلاً؟
سؤال صريح يطرحه كثيرون:
هل هذه الأدوات، وإن بدت مفيدة، هي وسيلة ناعمة لإعادة تشكيل وعي الشعوب على مقاس القوى المهيمنة؟
هل هي ابن شرعي للإمبريالية الرقمية؟
الجواب ليس بـ “نعم” أو “لا”.
الذكاء الاصطناعي أداة، لكنه يحمل في طيّاته تصوّرات ثقافية وقيمًا ناعمة تُنقل إلينا دون أن نشعر.
كما لا يمكننا إنكار الفائدة، لا يمكننا التغافل عن السياق.
من هنا، لا بدّ من مقاربة نقدية، تجعل GenAI أداة للتحرّر، لا قناة للهيمنة.
ختامًا: بين الخوف والانبهار… أين العقل؟
الذكاء الاصطناعي التوليدي ليس عدوًا، لكنه ليس بريئًا أيضًا.
هو مرآة ثقافية، وسلاح معرفي، وأداة محتملة للتحرر… أو للهيمنة.
فإن فقدنا العقل النقدي، تحوّل إلى آلة تمحو هويتنا.
وإن تسلّحنا بالمعرفة، والوضوح، والنية الصافية لبناء أجيال حرّة…
تحوّل إلى سيف نحتنا به وعينا القادم.
إن أردناه أداة تحرير، فلنربطه بالعقل الناقد، والقيم الأصيلة، والهدف الأسمى للتعليم: بناء الإنسان الحرّ المفكّر.
ولنحتكم الى العقل كشرع أعلى. فنُعمل هذا العقل في استخدام الأدوات والتحكم في مخرجاتها، لا أن نجعلها تعمل بدلًا منه.
فلنُعد العقل إلى مكانته… لا فقط كمستخدم للآلة، بل كمُصمِّم للمصير.
*خبير تربوي ورئيس مجلس إدارة Global Education



