د. عدنان عويّد – الحوارنيوز خاص
هي في سياقها العام، دولة الحاق أو استتباع، وليست دولة مؤسسات أو مواطنة، كونها – أي الدولة الاستتباعيّة – تشكل في بنيتها وآليّة عملها على مستوى مؤسسات الدولة ومتحدات المجتمع أو مكوناته الخاضعة لأمرتها رابطاً أفقيّاً، تُلْحِقُ به وحدات اجتماعيّة أو سياسيّة أو اقتصاديّة أو ثقافيّة، لها هيكليتها شبه المنعزلة في جوهرها، والمرتبطة أو التابعة للدولة في ظاهرها أو حضورها, وبالتالي هي تشكل غطاءً عاماً للعلاقات الاجتماعيّة القائمة في بنية الدولة، دون أن تتحكم بهذه العلاقات شبكة مؤسساتيّة ذات طابع دستوري تعاقديّ يكون للمجتمع الدور الأساس في تكوينها وإدارتها ومراقبة العاملين فيها أو محاسبتهم، بل تتقاسم المؤسسات أو المتحدات (الخاصة والمنعزلة) في بنية هذه الدولة، مع المسيطرين على سلطة الدولة ذاتها سيادة الزعامات المحليّة والعائليّة والطائفيّة والحزبيّة والمناطقيّة والتكتلات الماليّة .. الخ. وغالباً ما تتم عمليّة التنظيم بين هذه المكونات (المؤسسات الاجتماعيّة والسياسيّة والإداريّة) في الدولة، بفعل لحمة (الغلبة) الاقتصاديّة أو السياسيّة لمكوّن اجتماعيّ (طبقيّ – طائفيّ – عشيريّ – قبيليّ- حزبيّ كاريزمي … الخ) على بقيّة المكونات الأخرى، ويتخذ هذا المكوّن بعد سيطرته على الدولة ومؤسساتها التشريعيّة والتنفيذيّة والقضائيّة، وسيلة لتمكين سيطرته على بقية المؤسسات أو المكونات الاجتماعيّة الأخرى، الأمر الذي سيحوّل الدولة ذاتها إلى أداة بيد هذا المكوّن المسيطر لتحقيق مصالحَ خاصة به, وبالتالي سيحوّل الدولة بالضرورة إلى دولة شموليّة.
تعتقد المرجعيات التقليديّة، كالطائفيّة والعشائريّة والقبليّة المتحكمة بالسلطة، أنها تقوم تحت مظلة الدولة الاستتباعيّة على وهم الاستمرار، – أي استمرارها في مراكز التحكم بآليّة الدولة والمجتمع – دون إدراكها أن هذا الاستمرار في حقيقة أمره واقعاً من وقائع التاريخ المتحول والمتغير دائماً، علماً أن هذا الاستمرار القسريّ واللاعقلاني ذاته، هو واقع يُؤَسَسُ أيضاً في حقيقة أمره على وهم أيديولوجي أو ظرفي قائم على ظواهر اجتماعيّة واقتصاديّة ودينيّة وسياسيّة بالغة التعقيد والتداخل.
إذن إن الغلبة (السيطرة) بطبيعة الحال في هذه الدولة الاستتباعيّة لن تكون للعناصر المدنيّة، أو الداعين للمواطنة، فهذا أمر غير ممكن في دولة عميقة في شموليتها، مثلما لا يمكن للفرد في هذه الدولة أو هذا المجتمع، أن يُحَدِدَ كفرد مستقل في جوهره كـ (مواطن) عن المكوّن الاجتماعيّ التقليديّ الذي ينتمي إليه، بل هو سيظل جزءاً من جماعة، أو مكوّن من المكونات التقليديّة التي لا انفكاك له عنها وعن سلطتها الخاصة في المدى المنظور على الأقل، إلا إذا تمت تحولات تاريخيّة عميقة في بنيتي الدولة والمجتمع، وغالباً وما تكون هذه التحولات قسريّة أيضاً من قبل معارضيّ هذه الدولة الاستتباعيّة يستخدم فيها العنف والعنف المضاد, الذي قد يحقق رغبات التغيير أو يفشل في تحقيقها إلى حين.
لا شك أن الحل الوحيد لتجاوز مثل هذه الدولة الاستتباعيّة التي أخذت تشكل ظاهرة قائمة بذاتها ومتجذرة كدولة عميقة في العديد من الدول العربيّة، هو تمثل العلمانيّة والديمقراطيّة كضرورة تاريخيّة، نهجاً في سياسة الدولة إذا ما توفر الحامل الاجتماعيّ المؤمن بهذه العلمانيّة والديمقراطيّة كرافعتين نهضويتين، لكونهما في مجملهما هما العامل الحاسم في الحقيقة والقادر أن يستبطن مؤسسات الدولة الدستوريّة وتحويلها ورشات عمل تنمويّة يحكمها القانون وتصب نشاطاتها في خدمة المجتمع بكل مكوناته، وليس في خدمة قوى طبقيّة أو طائفيّة أو حزبيّة محددة … وغيرها. وبالتالي العمل بجد على توطين العموم الثقافيّ والاقتصاديّ والسياسيّ والاجتماعيّ القائم داخل نسيج خلايا المجتمع المخترق كما قلنا من قبل المكونات التقليديّة داخل بنية هذه الدولة والمجتمع، توطيناً عقلانيّاً، من خلال تفتيت وإضعاف هذه المرجعيات التقليديّة وحتى المعاصرة منها والحاقها بسياسات الدولة الدستوريّة ومؤسساتها المدنيّة وخططها التنمويّة.
من هنا تأتي العلمانيّة والديمقراطيّة والدولة المدنيّة إذن، لتحقق الغاء الاستمرار التاريخيّ الذي يطبع الفرد أو المواطن بطابع عقيديّ ما، أو أثنيّ ما أو قبليّ أو عشيريّ ما. أي هم من يعمل على إلغاء الدولة بمفهومها (الاستتباعيّ) والالحاقيّ السابق, والفسح في المجال واسعا لتجذير التحولات الجديدة في البنيّة الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة والأخلاقيّة والوطنيّة وحتى القوميّة في دولة حديثة، أي تجذير الدولة المدنيّة و دولة المواطنة والمؤسسات. أو هم بتعبير آخر، من يساهم بالدعوةً إلى تجاوز مفهوم الفرد (السياسيّ) طائفيّاً وعرقيّاً ومناطقيّاً، أي تجاوز ذاك الفرد المنغلق في عقليته، والطامح إلى توظيف مرجعياته التقليديّة سياسيّاً من أجل تحقيق مصالح أنانيّة ضيقة, وفي المحصلة هم – العلمانيّة والديمقراطيّة والدولة المدنيّة – من يعمل على خلق الفرد المواطن الحر في دولة دستوريّة مؤسساتيّة عقلانيّة وقانونيّة، جوهرها المواطنة ودولة القانون. أي الدولة المدنيّة.
ملاحظة:
إن تحقيق هذه الدولة لا يتم بالرغبات والنيات والعواطف والمواقف الذهنيّة الذاتية.. وإنما تتحقق من خلال دراسة الواقع في بناه الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة دراسة موضوعيّة.. مثلما تفرض ضرورة النظر في واقع الحامل الاجتماعيّ المؤهل لتحقيق التغيير، ومدى قدرته على تفهم الواقع ودراسة آلية عمله، ووضع أجندات للتغيير، ودور القوى المسيطرة في هذا الواقع، حتى لا تسيطر الشعاريّة والنزعة اللاسلطويّة الفوضويّة (الباكونيّة – نسبة إلى الثائر الفوضويّ باكون) للتغيير.
إن الناس العقلاء هم من يطرحون على أنفسهم المهام التي يستطيعون حلها. ثم لتعلم القوى الاجتماعيّة المتحكمة بالسطلة الشموليّة القائمة، أو المتصديّة للتغير بأنها لن تستطع أن تغير قناعة ما من قناعات المجتمع حتى ولو استخدمت كل أسلحة التدمير الشامل، إذا لم يصل المجتمع في وجوده الاجتماعيّ ودرجة تطوره إلى قبول هذه القناعة.
إن التغيير في المحصلة لا يتم على مبدأ سرير بروكوست.
*كاتب وباحث من سورية
d.owaid333d@gmail.com
زر الذهاب إلى الأعلى