الخارطة الإقتصادية للأزمة اللبنانية:الاقتصاد المتوحش وانتشار المجاعة*( علي فاعور)
بقلم الدكتور علي فاعور
في تقرير صدر عن البنك الدولي (ربيع 2021)، يحذر فيه من الحالة الكارثية للإقتصاد اللبناني، بعنوان: ”لبنان يغرق”.. نحو أسوأ ثلاث من الأزمات المسجلة على مستوى العالم في التاريخ الحديث ،وثالث أخطر أزمة في تاريخ الاقتصاد العالمي منذ منتصف القرن التاسع عشر، وذلك بالمقارنة مع أزمة تشيلي عام 1926، وأزمة أسبانيا عام 1931، وكذلك بالمقارنة مع أزمة الولايات المتحدة الأميركية بين 1929 و 1933، وأزمة اليونان عام 2009 (الشكل 1).
- لبنان سجين الجغرافيا
منذ العام 2016 بدأت تتزايد المؤشرات السلبية في تكوين الإقتصاد اللبناني، وحتى قبل سنوات لطالما صنّف البنك الدولي لبنان على أنه دولة هشاشة وعنف، ونزاعات متواصلة.. فهو “إقتصاد جغرافي قائم على المخاطر والمكافآت” وذلك بحسب التقرير الصادر عن المرصد الإقتصادي اللبناني، ربيع 2016، حيث يواجه الإقتصاد الجغرافي للبنان تحديات مرتبطة بكونه “حلقة وصل لخطوط الصدع الإقليمية والمخاطر الناجمة عن إعتماده على تدفقات رأس المال”، حيث يبرز القلق من الصراعات الإقليمية والتأثيرات غير المباشرة المتوقعة للأزمة السورية، ذلك أن الإقتصاد اللبناني يعتمد على تحويلات الإغتراب اللبناني، وسط حالة الجمود السياسي وشلل السياسة المالية، كما يعتبر لبنان أكبر بلد مضيف بالنسبة للاجئين السوريين بالمقارنة مع عدد سكانه…
وبينما يغرق لبنان في أسوأ أزمة إقتصادية وسياسية شهدها العالم ، تستمر السلطة الحاكمة بعملية “الإنكار المتعمّد”لمختلف جوانب الحالة الكارثية التي يعيشها اللبنانيون في مواجهة الإنهيارات المالية المتتالية، مما أدى إلى تفكك الركائز الأساسية في البنية الإقتصادية وإنهيار الخدمات العامة، وتهجير اللبنانيين، ولا سيّما هجرة الأدمغة الجماعية إلى بلدان الشتات، وإستنزاف العقول والكفاءات والتي تمثل خسائر الموارد البشرية والتي تُقدر بالمليارات.
لقد صدرت مؤخراً عدة تقارير حول التغييرات الإقتصادية والمالية ومخاطرها، عن منظمات وهيئات دولية عالمية، مثل البنك الدولي ومنظمة الإسكوا و منظمة الأمم المتحدة للطفولة يونيسيف..، تتهم السلطة الحاكمة بالفشل، وتنبه من مخاطر إستمرار السياسات المعتمدة في الحكم، والتي تغطي عمليات الفساد وتحمي الإحتكار وتمنع المحاسبة والمساءلة، وذلك دون أن تلق التجاوب المطلوب من السلطات الحكومية التي آثرت الإستمرار في عملية الصراع على الحصص وتوزيع المغانم لحماية مصالحها في النظام الإقتصادي المفلّس، وذلك بعد سنوات من الإزدهار و الدعم الدولي الواسع للبنان في مقابل الوعود بإجراء إصلاحات لم تنفذ، يضاف إليها تدفق رؤوس الأموال، وبخاصة من الإغتراب اللبناني بحيث بلغ مجمل تدفقات تحويلات المهاجرين الوافدة إلى لبنان للفترة بين 2002 – 2020، ما مجموعه 121,5 مليار دولار أمريكي،
الشكل 1.
- تفاقم الإنكشاف المالي حتى بداية الإنهيار
وبحسب بيانات صندوق النقد الدولي، فقد جاء لبنان في المرتبة الأولى بين بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا وأفغانستان وباكستان… من حيث الإنكشاف المالي للدولة نتيجة العحز المالي وتفاقم الأزمة الإقتصادية، لقد كان البنك المركزي يؤمن التمويل للدولة اللبنانية عبر “هندسات مالية” أجراها مع البنوك المحلية بواسطة فوائد عالية ومغرية، حصلت عليها المصارف مقابل توظيف أموال المودعين لدى مصرف لبنان، وقد تفاقم هذا الإنكشاف حتى بداية الإنهيار المالي وفقدان السيولة وإقفال المصارف أبوابها نهاية العام 2019 ، ففي أول كانون الثاني 2019 كانت احتياطات مصرف لبنان بالعملات الأجنبية تبلغ نحو 32,5 مليار دولار لكنها تراجعت بقيمة 20,6 مليار دولار، لتصل 11,9 مليار دولار في نهاية شباط عام 2022.
0 أعلى معدّل انكماش للناتج المحليّ الإجماليّ،
كذلك فقد إنخفض الناتج المحلي الإجمالي إلى 19,02 مليار دولار خلال عام 2020، وذلك بنسبة بلغت 63,4 في المائة مقارنة بعام 2019، وهذا يمثل أعلى إنكماش (أي نسب نموّ سلبيّة)، في قائمة تضم جميع دول العالم 193 دولة (الشكل 2)، حيث أصبح لبنان صاحب الرقم القياسيّ العالميّ الجديد بالوصول إلى أعلى معدّل انكماش للناتج المحليّ الإجماليّ، متقدماً على مكاو، وليبيا، وفنزويلا وسورينام، وذلك بسبب غياب العمل السياسي من قبل السلطة الحاكمة التي أفقرت اللبنانيين..
وهذا الوضع أدى إلى انخفاض حاد في القوة الشرائية للسكان . وذلك نتيجة الانخفاض الحاد في قيمة الليرة اللبنانية ، المربوطة رسمياً بالدولار ، حيث فقدت العملة اللبنانية نحو 93 في المائة من قيمتها في السوق السوداء.
الشكل 2.
- العجز التجاري والدين العام
لقد تحول لبنان ومنذ قرابة ثلاثة أعوام ، من اقتصاد متوسط الدخل إلى بلد يعاني من السقوط المالي نتيجة السياسة النقدية الفاشلة، وإرتفاع معدلات التضخم وسوء الإدارة الحكومية التي أدت إلى واحدة من أسوأ الانهيارات الاقتصادية التي عرفها العالم..
وفي العام 2020، سجّل ميزان المدفوعات اللبناني عجزاً قدره 10.6 مليارات دولار، لكن وفي نهاية عام 2021 تراجع هذا العجز إلى مستوى 2.0 مليار دولار أميركي. ويعود تحسّن عجز ميزان المدفوعات الى عدة عوامل،، أهمها تراجع قيمة الواردات من الخارج، ثم زيادة قيمة الصادرات إلى الخارج والتي بلغت نحو 3,7 مليار دولار عام 2019، مقابل نحو 3 مليار دولار عام 2018، حيث أن لبنان لا يملك موارد اساسية وهو يعيش على الاستيراد بنسبة تفوق 80 بالمئة، ومن دون إنتاجية بارزة في الإقتصاد اللبناني (الشكل 3). تضاف إليها ما تسلمه لبنان من تحويل حقوق السحب الخاصة من صندوق النقد الدولي، ثم توقف مصرف لبنان عن دعم معظم السلع الأساسية المستوردة من الخارج.
وفي عام 2021، فقد بلغ الدين العام في لبنان 360% من الناتج المحلّي الإجمالي حتى نهاية السنة المالية، بينما بالمقابل فان النسبة الأعلى التي سجّلتها اليونان في بداية أزمتها المالية (103 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في العام 2007..
الشكل 3.
ويتوزع الدين العام اليوم البالغ نحو 100 مليار دولار (مع الفوائد المتراكمة عليه)، بين دين محلي يمثل 60 في المائة بالليرة، و 40 في المائة دين أجنبي بالدولار، وفي حال الأخذ بالإعتبار هبوط سعر صرف الليرة بنسبة 93 في المائة، وحصيلة إقتطاع نسبة 70 في المائة من الدين الأجنبي، تنخفض قيمة الدين العام إلى مستوى يبلغ 15 مليار دولار، مما قد يساعد الحكومة اللبنانية على الوفاء بإلتزاماتها لإستعادة الثقة مجدداً في حال الإتفاق مع صندوق النقد الدولي والبدء بتنفيذ الإصلاحات المطلوبة ،
ذلك أنّ معالجة أزمة الدين تقتضي المباشرة بإعادة هيكلة القطاع العام، يليه المعالجة الجذرية لملف الكهرباء، ثم العمل لوضع خطة واضحة لإدارة الدين العام وتحقيق النمو الإقتصادي بحيث يمكن التخفيف من نمو خدمة الدين وتخفيف أعبائه..
- تصنيف المخاطر ومؤشرات إقتصادبة صادمة
يتبيّن بحسب تقرير نشرته لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (إسكوا) (يوم 15 نموز 2021) عن حالة ما بعد كوفيد عام 2021 ، وشمل 22 دولة عربية، بعنوان “حقائق وآفاق في المنطقة العربية”، أن حالة لبنان هي الأسوأ (بالإضافة إلى حالة اليمن) حيث إنهار ناتجه المحلي الإجمالي بنسبة 31.2٪ في عام 2020 (حسب بيانات الاسكوا).
- أما آخر رقم قياسي جديد بالإخفاق فقد سجله لبنان في الأسواق المالية العالمية.(حزيران 2022)، ذلك أنه وللمرة الاولى منذ إعلان لبنان التخلف عن سداد سندات “اليوروبوندز في آذار من العام 2020، تنخفض قيمة هذه السندات إلى مستوى 9,2 سنتات للدولار، مقابل 9,5 سنتات لديون مماثلة لدى فنزويلا، وهذا التراجع الكبير في السندات اللبنانية هو نتيجة فقدان الثقة بالدولة وكذلك “فقدان حملة السندات الاجنبية الثقة بإمكانية تنفيذ لبنان الشروط الإصلاحية المطلوبة للدخول مع صندوق النقد الدولي في برنامج إنقاذي”…
- لكن مرتبة لبنان بـحسب”مؤشّر الديموقراطيّة” في العالم في العام 2021 ، قد تراجعتإلى مصاف “الأنظمة الإستبداديّة” ليحتلّ بذلك المرتبة 112 عالميًّا (في 167 دولة)، والخامسة إقليميًّا، وهذا ما أدى إلى تراجع تصنيف لبنان على المستوى العالمي لجهة تجويع اللبنانيين نتيجة السياسات الفاشلة في الحكم والتهرّب من تنفيذ الإصلاحات المطلوبة من المجتمع الدولي، كونه يواجه أزمة من صنع الإنسان، وفي المرتبة الأخيرة من حيث الصحة المالية في العالم..
أما ترتيب لبنان في أحدث تصنيف ربع سنوي في دراسة مجلة Euromoney البريطانية حول المخاطر الفردية لكل دولة (حزيران 2021) ، من خلال مراعاة ستة مؤشرات هي: المخاطر السياسية، والأداء الاقتصادي، والحصول على التمويل من البنوك وأسواق رأس المال، والديون، حيث جاء ترتيب لبنان على المستوى العالمي في المرتبة 169 في لائحة شملت 174 دولة (الشكل 4)، أما على المستوى الإقليمي فكانت مرتبته 16 من أصل 18 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا ، وبعد دول مثل العراق وليبيا والسودان، متقدماً على اليمن وسوريا في آخر الائحة.
- أما بحسب مؤشر الحرية الاقتصادية ( 2022 Index) لعام 2022، فقد جاء تصنيف لبنان في المرتبة 162 بين دول العالم (177 دولة) ، وفي المرتبة 12 من بين 14 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، لكنه بحسب مؤشر الصحة المالية، قد جاء في المرتبة الأخيرة وهي الأسوأ والأدنى في العالم, بحيث لم يعد أمام السلطة الحاكمة سوى طلب المساعدات والدعم الدولي، بينما هي تستمر في سياسة التوافق على المحاصصة وحماية الإحتكار في الإقتصاد المتوحش، وتتهرّب من محاربة الفساد وتطبيق الإصلاحات المطلوبة…. بحيث يعتبر صندوق النقد الدولي اليوم بمثابة الفرصة الأخيرة للخلاص وإستعادة الثقة، والملاذ الوحيد الذي يشكل فرصة الإنقاذ.
* دراسة للدكتور علي فاعور، أستاذ الجغرافية وعميد في الجامعة اللبنانية (سابقاً)، وعضو المجلس الوطني للبحوث العلمية؛ قُدمت في المعهد العالي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانية والإجتماعية، والفرقة البحثية الجغرافية، (يوم الثلاثاء في 28 حزيران 2022)،
كما تتضمن الدراسة في الختام عناوين موجزة للبرنامج الإصلاحي الشامل لإستعادة الدولة المنهوبة والمحطوفة وإنقاذ اللبنانيين قبل بلوغ لبنان مرحلة الإنهيار الكبير.
ملاحظة: لقراءة الدراسة كاملة ( 54 صفحة)، مع مجموعة كبيرة من الرسوم البيانية (13 رسم بياني)يمكن مراجعة مدوّنة الدكتور علي فاعور، مع العديد من الأبحاث والدراسات المنشورة، على الرابط التالي:
https://alifaour.blogspot.com/2022/07/blog-post.html