رأي

الحُكم المقبل في فرنسا “يميني وأكثر”.. ويمثلُ ظاهرتيّن سياسيتيّن متناقضتين (جواد الهنداوي)

 

د.جواد الهنداوي – الحوار نيوز

        قبل كل شيء ،وللتوضيح ، استخدمتُ مصطلح ” يميني وأكثر”، ويُستساغ في اللغة الفرنسية القول ” droite plus”  لوصف الجمعية الوطنية والحكومة الفرنسية المقبلة ،واللتين ( كما أتوقع ) ستكونان بأغلبية من احزاب اليمين التقليدي و حزب الجبهة الوطنية، والمصنّف بأنه حزب يميني متطرف ، فهوية الحكم ستكون يميني واكثر ، لا هو يميني تقليدي ولا هو يميني متطرف .

        لم ينتظرْ طويلاً الرئيس ماكرون ،بعد دعوته إلى حلْ الجمعية الوطنية الفرنسية ( مجلس النواب ) ، ليحصد أول فشل لخطوته ، حدّدَ هذا الفشل ،و من الآن ، نتائج الانتخابات المقبلة ،في 30 حزيران الجاري ، و هوية الحكومة الفرنسية العتيدة .

     بماذا يتمثّل هذا الفشل ؟

يتمثّل باعلان اكبر تجمّع  يميني في فرنسا ، ونواته حزب التجمع الجمهوري RPR ( الحزب الذي أسّسهُ الرئيس الراحل جاك شيراك عام 1976) ، استعداده للتضامن والتعاون مع حزب الجبهة الوطنية ،بقيادة ماري لوبن ،والفائز في الانتخابات البرلمانية الاوروبية ، والمُصنّف بحزب يميني متطرف .

  نالَ هذا الموقف ترحيب واستحسان حزب الجبهة الوطنية ، ولكنه كان صدمة لأحزاب اليسار التقليدية وللرئيس ماكرون وحزبه .

  اصبح الرئيس الفرنسي وحزبه مُحاصرا بين يمين متضامن وبقوة ، ويسار ضعيف وحائر .

  لاول مرّة ، في تاريخ الجمهورية الخامسة لفرنسا سنشهد تعايش ظاهرتيّن سياسيتين متناقضتين : الاولى  تعايش بين رئيس جمهورية  من حزب وسطي ( بين اليمين و اليسار )   ، و رئيس حكومة من حزب يميني متطرف . و الظاهرة الثانية هي تضامن وشراكة سياسية و في الحكم بين احزاب اليمين وحزب يميني مُصنّفْ من قبل كافة الاحزاب السياسية الفرنسية بأنه حزب متطرف .

شهدت فرنسا في تسعينيات القرن الماضي ، وما بعدها ثلاث مرّات، حالة تعايش في الحكم بين رئيس جمهورية من حزب، ورئيس وزراء من حزب آخر مختلف في التوجه ( بين الرئيس الاشتراكي فرنسوا ميتران و رئيس وزراء يميني جاك شيراك ،وحالة اخرى بين ذات الرئيس الاشتراكي ورئيس وزراء يميني آخر هو ادوار بلدير ، وحالة ثالثة تمثّلت برئيس جمهورية يميني، جاك شيراك ورئيس وزراء اشتراكي ليونيل جوسبان ) ، ولكن لم تشهد فرنسا تضامنا واستعدادا للدعم وللحكم من حزب سياسي فرنسي يميني او يساري مع حزب الجبهة الوطنية ،والموصوف بانه حزب يميني متطرف !

ما الذي حصلْ ؟ و ماهي الاسباب التي دعّت تجمع الأحزاب اليمينية لإعلان استعداده للتضامن مع حزب الجبهة الوطنية في الانتخابات الفرنسية المقبلة؟

الذي حصلْ  هو نجاح وفوز حزب الجبهة الوطنية ( Le Front National) في الانتخابات البرلمانية الاوروبية ، هذا الفوز الكبير هو السبب المباشر لتوجّه الاحزاب اليمينية نحو حزب الجبهة الوطنية . ولكن هنالك اسباب سياسية مهمة اخرى دعت احزاب اليمين للتضامن مع حزب الجبهة الوطنية، بدلاً من مقاطعته ،كما كان الحال سابقاً ، وفي جميع الانتخابات التي شهدتها فرنسا . فما هي هذه الاسباب ؟

أحزاب اليمين ادركت جيداً وقائع مسار المشهد السياسي ، والتي اصبحت ( واقصد الوقائع ) حقائق لا مفّرَ من أعتبارها والتعامل على ضوئها :

الحقيقة الاولى ،ان حزب التجمع الوطني ، ومنذ قيادته من قبل السيدة مارين لوبن ، عام 2011، بعد ان أزاحت والدها ( جان ماري لوبن ) عن رئاسة الحزب ، في تقدم مضطرد في الانتخابات و المقبولية عند الشعب الفرنسي . قيادة السيدة تميّزت بالديناميكية ، بعدم المشاكسة ( خلاف والدها ) ، وبالتحفظ الشديد على إطلاق تصريحات سياسية ذات طابع عنصري ،( خلاف والدها ) ، لم تتبنْ تصريحات ضدَ اليهود او الهولكوست ( خلاف والدها ) ، بل وربما ( واضع اكثر من خط تحت كلمة و ربما ) ذهبت بخطوات نحو اللوبيات . تبنّت تصريحات ضّدَ ” الاسلامويّة ” ونشاطا لاحزاب إسلامية في فرنسا . تميزّت بالاعتدال في تصريحاتها التي تناولت فيها المظاهر الإسلامية كالحجاب ( فهي ليست ضد الحجاب ولكن ضده في المدرسة ) . اذاً ، حزب الجبهة الوطنية فرضَ موقعه في المشهد السياسي الفرنسي والأوروبي ، و اصبح  الآن الحزب الذي يحظى بأعلى نسبة من اصوات الناخبين .

الحقيقة الثانية ،التي أدركتها احزاب اليمين ، ان حزب الجبهة الوطنية ،في الحقيقة ،لم يعدْ حزباً متطرفاً ،لا في نظر الفرنسين ، ولا في نظر الاوروبيين والعالم ،بل ويضم الحزب في صفوفه ناشطين من هويات عربية واخرى . والسبب في عدم تطرفه ، يعود ، ليس فقط إلى التغيير ،كما ذكرنا ،في عمل ومنهجيّة قيادته ، و انما ايضاً إلى ولادة حزب يميني آخر ،اكثر تطرّفاً بكثير من حزب الجبهة الوطنية ،ألا وهو حزب الاسترداد،بقيادة آريك زمور ،والذي يجهر ليل نهار بتصريحات عنصرية وطائفية ، و يعارض وبصراحة وجود الاقليات و حقوقهم .

ماهي اهداف اليمين التقليدي من وراء تضامنه مع حزب الجبهة الوطنية ؟ هل هي السلطة ام اهداف سياسية اخرى ؟

ليست السلطة او المشاركة في الحكم ، إو مغانمهما  ، وانما الاهداف ابعد من ذلك بكثير !

 تفكّر احزاب اليمين التقليدي باحتواء حزب الجبهة الوطنية ، والتأثير أيجابياً على برنامج عمله الحكومي ، لكي يكون مساره وعمله الحكومي متوافقا مع المبادئ الأساسية للجمهورية والمصالح الوطنية .ترى و تشعر احزاب اليمين التقليدي في فرنسا أنها هي المؤتمنة على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان والعدالة في فرنسا ، وعلى التوجه الليبرالي المعتدل لفرنسا ، لذلك سارعت قيادة التجمع الحزبي اليميني بعرض تعاونها وتضامنها مع حزب الجبهة الوطنية لخوض الانتخابات المقبلة .

و يجدُ حزب الجبهة الوطنية بدعوة اليمين التقليدي له للعمل المشترك فرصة مواتية جداً له لكسب ” شرعية اجتماعية ووطنية ” ، ليتجرّد ، والى الأبد ، عن صفة ،لصقت به ولا حقته وهي صفة ” حزب متطرف ” .

كان و لايزال همْ السيدة مارين لوبن ” هو نعتها بالوطني وليس بالتطرف .دخولها إلى نادي الاحزاب اليمينية مكسب استراتيجي وكبير لها ولحزبها ، وسيمهّد  لها هذا الدخول ، فوز مؤكّد في الانتخابات الرئاسية المقبلة وموعدها عام 2027 ، حينها سيكون رئيس جمهورية ورئيس حكومة ، وكلاهما من احزاب اليمين .

* سفير عراقي سابق.رئيس المركز العربي الأوروبي للسياسات وتعزيز القدرات /بروكسل /  

 

 

 

 

 

 

 

 

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى