الحوكمة والمساءلة في إفريقيا: التقدم المُحْرز والطريق إلى المستقبل
اعداد دانييلا سعد – الحوارنيوز
ألقت أنطوانيت ساييه*، نائب مدير صندوق النقد الدولي كلمة في افتتاح مؤتمر دولي عن الحوكمة ومستقبل افريقيا عقد في بوتسوانا أوائل الأسبوع الجاري، وتضمنت الكلمة وقائع من عمل عدد من الحكومات الأفريقية وتناولت الجهود المبذولة للتقليل من الفساد عن طريق تعزيز الحوكمة في ست وظائف أساسية للدولة: حوكمة البنك المركزي، وحوكمة القطاع المالي، وحوكمة المالية العامة، وتنظيم السوق، وسيادة القانون، ومكافحة غسل الأموال.
كلمة ساييه:
طاب صباحكم جميعا. نيابة عن صندوق النقد الدولي ومعهده للتدريب في إفريقيا، أرحب بكم في هذا المؤتمر، الذي تشترك في تنظيمه مفوضية الاتحاد الإفريقي.
أود في البداية توجيه الشكر إلى الوزيرة بيغي سيرام وسلطات بوتسوانا على استضافة هذا المنتدى وعلى ما حظينا به من كرم الضيافة..
إنه من الملائم بشكل خاص أن نلتقي هنا في بوتسوانا تحت مظلة هذا المؤتمر. ذلك أن بوتسوانا لها قصة متميزة؛ فمسارها – من أحد أفقر اقتصادات العالم إلى بلد ينتمي للشريحة الأعلى من الدخل المتوسط حاليا – هو خير شاهد على ما تتمتعون به من إدارة اقتصادية كلية رشيدة، وحوكمة قوية، ومؤسسات جيدة. وأنا على ثقة من أن بوتسوانا تستطيع الاستفادة من هذا الأساس القوي لمواصلة تدعيم أعلى معايير الحوكمة.
وأود الإشادة أيضا بمفوضية الاتحاد الإفريقي لدورها القيادي في تعزيز الحوكمة الرشيدة والشفافية، على النحو الذي أبرزته معالي الدكتورة مونيك نسانزاباغانوا في كلمتها الرئيسية.
لقد أصابت القول بأننا نحتاج إلى تكثيف جهودنا المشتركة لتعزيز الشفافية، وتحسين الحوكمة، والحد من مواطن التعرض لمخاطر الفساد. وهذه المسألة أكثر من مجرد أموال مهدرة – فهي تتعلق بتآكل العقد الاجتماعي وتفتت قدرة الحكومة على تحقيق النمو الاقتصادي على نحو يعود بالنفع على كل المواطنين.
وبالطبع، فإن الفساد قضية قائمة منذ وقت طويل. ولكننا اليوم، مع ما نواجهه من أزمات متعددة متزامنة – من جائحة كوفيد إلى الحرب في أوكرانيا والتحديات المستمرة التي يفرضها تغير المناخ والموقف الأمني في منطقة الساحل الإفريقي – أصبحت الحاجة إلى الحوكمة الرشيدة أشد إلحاحا.
وقد أوضحت هذه الأزمات المتعددة بجلاء أن البلدان ذات المؤسسات الاقتصادية القوية تستطيع مواجهة هذه التحديات بصورة أكثر فعالية والتأهب بصورة أفضل لتحقيق تعافٍ قوي منها – وينطبق هذا على البلدان في كل مستويات التنمية. وندرك أيضا أن معالجة الفساد قضية دولية، نظرا لدور المهن التي تمَكِّن الفساد ومناطق الولاية التي تتيح ملاذا آمنا لعائداته.
ولذلك، أود أن أتحدث اليوم عن ثلاثة أمور. أولا: كيف نقوم، في صندوق النقد الدولي، بتكثيف انخراطنا مع المنطقة بشأن قضايا الحوكمة ومكافحة الفساد. ثانيا: بعض قصص النجاح التي نراها في مختلف أنحاء إفريقيا. وأخيرا، ما تبرزه هذه النماذج من عناصر أساسية للحوكمة الرشيدة والمساءلة – والتي يتعين على المنطقة بأكملها أن تركز عليها للاستفادة بحق من إمكانات إفريقيا.
وسأبدأ بتركيز الصندوق المتزايد على هذه القضية.
يبني إطار الصندوق المعزز بشأن الحوكمة والفساد، الذي تمت الموافقة عليه في عام 2018، على الدروس التي استخلصناها على مدار 20 عاما. وتركز جهودنا على تقليل مواطن التعرض للفساد عن طريق تعزيز الحوكمة في ست وظائف أساسية للدولة: حوكمة البنك المركزي، وحوكمة القطاع المالي، وحوكمة المالية العامة، وتنظيم السوق، وسيادة القانون، ومكافحة غسل الأموال.
وفي حوارنا بشأن السياسات مع البلدان الأعضاء، ننظر إلى مدى قوة إطار مكافحة الفساد لديها – وخاصة ما إذا كان متوافقا مع القضايا المحددة التي تواجه البلد المعني – ونعمل معه على تحديد خيارات السياسات الكفيلة بتعزيز أطر الحوكمة ومكافحة الفساد. غير أن عملنا يتجاوز نطاق المشورة بشأن السياسات. فبناء على طلب السلطات القُطْرية، نقوم أيضا بتقديم المساعدة الفنية والتدريب لصناع السياسات في هذا المجال.
وكثير من هذا الجهد تتولى تنسيقه شبكة الصندوق التي تضم 17 مركزا لتنمية القدرات حول العالم. والواقع أن لدينا ستة من هذه المراكز في إفريقيا – بما في ذلك معهد التدريب لإفريقيا – تعمل عن كثب مع البلدان الأعضاء وشركاء التنمية للمساعدة في وضع وتنفيذ استراتيجيات شاملة لإصلاح الحوكمة في مجالات تبدأ من إدارة المالية العامة وأعمال البنوك المركزية إلى دعم برامج بناء القدرات في مجالي مكافحة الفساد وسيادة القانون.
وقد قام الصندوق أيضا بتطويع وتعزيز عمله في التصدي لأزمة كوفيد-19. فحين ضربت الجائحة في البداية، اتخذ الصندوق خطوات فورية لمساعدة البلدان الأعضاء على حماية الأرواح وسبل الرزق. وكانت رسالتنا: “أنفقوا ما يتعين إنفاقه، ولكن احتفظوا بالفواتير” – أي قوموا بإيلاء أولوية للتمويل العاجل مع الحفاظ على المساءلة والشفافية.
وفي هذا الصدد، حددنا بضعة معلمات:
أولا، يجب على البلدان المتلقية للتمويل الطارئ من الصندوق أن تلتزم بالشفافية وضمانات المساءلة. وشمل هذا نشر عقود المشتريات المتعلقة بكوفيد-19 – بما في ذلك بيانات الملاك المستفيدين في الشركات ذات الصلة، وإجراء عمليات تدقيق ونشر نتائجها، وإعداد تقارير مفصلة عن الإنفاق المتعلق بكوفيد-19.
ثانيا، في الحالات التي شابتها جوانب ضعف حادة على صعيد الحوكمة، عملنا مع السلطات لضمان اتخاذ إجراءات علاجية.
وأخيرا، بالنسبة للبلدان المتلقية للمساعدات الطارئة المرتبطة مع الصندوق باتفاقات تمويلية متعددة السنوات، أو التي طلبت عقد مثل هذه الاتفاقات، فإننا مستمرون في التواصل الوثيق معها بشأن الأمور الهيكلية الأطول أجلا فيما يتعلق بالحوكمة والفساد. كذلك فإننا نتواصل أيضا مع الجهات الفاعلة من غير الدول، التي تقدم في كثير من الأحيان رؤى قيمة بشأن قضايا الحوكمة.
وهذه الجهود بالغة الأهمية لإفريقيا – وخاصة في الوقت الذي تتطلع فيه القارة إلى المستقبل.
فنحن نعلم أن الفرصة الاقتصادية الكبيرة أمامنا هي الهبة الديمغرافية التي تتمتع بها إفريقيا. غير أن الاستفادة من هذه الهبة تتطلب تلبية تطلعات الجيل الجديد. ومن العناصر الحيوية لتحقيق ذلك ضمان الاستخدام الفعال للموارد العامة والمساهمة في تحقيق الرخاء للمواطنين على أساس مشترك ودائم.
وقادة إفريقيا ينهضون لمواجهة هذا التحدي – وبعض بلدانها يفوق تصنيفها كثيرا من الاقتصادات المتقدمة في مجال الحوكمة.
وقد رأينا ذلك في رواندا التي اعتمدت مؤسسات أكثر تقدما لإعادة البناء بعد صراع مدمر.
ورأيناه في سيشيل التي اضطلعت بإصلاحات اقتصادية ومؤسسية شاملة للتوصل إلى علاج حاسم لأزمة الدين في عام 2008.
وهنا في بوتسوانا، رأينا إنشاء إطار جيد للسياسات من أجل الإدارة الرشيدة للثروة المتحققة من الموارد المعدنية.
واليوم تقود هذه البلدان المنطقة بالحوكمة السليمة، غير أن كثيرا من البلدان الأخرى بصدد اتخاذ خطوات حاسمة أيضا.
فقد رأينا إصلاحات جيدة في حوكمة المالية العامة في بلدان مثل غامبيا وليبريا والسنغال.
وقام كل من بوتسوانا وزمبابوي وموريشيوس وغانا باعتماد أطر لمكافحة غسل الأموال.
وتجدر الإشارة بشكل خاص إلى ليبريا وسيراليون وأنغولا – لأنها جميعا تدلل على إمكانية القيام بإصلاحات مهمة، حتى في البيئات الهشة.
فما هي، إذن، الدروس التي يمكن أن تستقيها المنطقة من هذه النماذج؟
أولا: أنجح البلدان في هذا المجال لديها مستوى مرتفع من الالتزام السياسي بالحوكمة الرشيدة والشفافية. ويمكنكم رؤية هذا بعدد من السبل: كيفية إعدادها للميزانية وطريقة عرضها – حيث تتيح الوصول المفتوح لإجراءات السياسات المقترحة؛ واستقلالية بنوكها المركزية عن الضغوط السياسية؛ والتزامها بإعلان أصول كبار مسؤوليها العموميين؛ وتصميمها على نشر نتائج حديثة لعمليات تدقيق البيانات ومتابعة هذه النتائج لمساءلة المنظمات والأفراد المعنيين.
ونرى عنصرا مهما ثانيا، ألا وهو احترام سيادة القانون وحقوق الملكية. فالمستثمرون الأجانب يوجهون استثماراتهم لبلد ما لأنهم يعلمون أن الحكومة ستحترم العقود وأن حقوق الملكية سيتم إنفاذها.
وثمة أولوية مهمة – وعنصر ثالث مهم يراعيه الكثير من هذه البلدان – وهو ضمان الكفاءة والشفافية والإشراف العام على هذه الاستثمارات. ففي كتاب صدر مؤخرا عن الصندوق بشأن الحوكمة الرشيدة في إفريقيا جنوب الصحراء، يشير زملائي إلى الدراسات التي تخبرنا أنه في حالة الافتقار إلى الإشراف الحكومي الكافية على المشتريات العامة، غالبا ما تكون تكلفة المشروعات أعلى. ونرى احتياجا هائلا لزيادة الاستثمار العام في إفريقيا في مجالات البنية التحتية والصحة والتعليم – على نحو أكثر كفاءة وشفافية.
رابعا، الوصول إلى المعلومات فحين نتحدث عن منظمات المجتمع المدني، يكون هذا الجانب من المجالات التي يتم التركيز عليها، حتى يكون المواطنون على علم وحتى يتمكنوا من مساءلة حكوماتهم على إجراءاتها.
وأخيرا، الابتكار والتكنولوجيا، اللذان أعتقد أن بإمكانهما القيام بدور كبير في مساعدة الحكومة على تحقيق أهدافها المتعلقة بهذه الأولويات. والواقع أننا رأينا بلدانا تتكيف سريعا مع ظروف الجائحة من خلال مبتكرات ساعدت الحكومات عبر المنطقة على خدمة شعوبها بدرجة أكبر من الشفافية والفعالية.
فعلى سبيل المثال، أطلقت سيراليون تطبيقات على شبكة الإنترنت لتحسين قدرة الحكومة على تتبع فترات الحجر الصحي وخدمات أخرى مثل توصيل الغذاء. واستخدمت توغو التكنولوجيا لتحديد المحتاجين للخدمات والتحقق منهم، واستخدمت نظم تداول الأموال عبر الأجهزة المحمولة لتقديم التحويلات النقدية لهم بشكل مباشر. أما جنوب إفريقيا فقد استخدمت تقنية روبوتات الدردشة (chatbots) للحد من انتشار المعلومات الزائفة عن كوفيد-19.
تلك هي بضعة أمثلة وحسب لكي نرى ضرورة توسع صناع السياسات في استخدام التكنولوجيا من أجل تحسين كفاءة العمليات الحكومية – وكذلك لتمكين الوصول إلى درجة أكبر من الشفافية. ذلك أن إدخال التكنولوجيا الجديدة في مجالات مثل الإدارة المالية أو المشتريات أو مراقبة إدارة الموارد الطبيعية يمكن أن يُحْدِث ثورة في كيفية عمل الحكومة. ويمكنه أيضا إحداث تحول في العلاقات بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني – بالحد من التفاعلات البينية غير الضرورية، وإتاحة أشكال من الإشراف والمتابعة تتسم بدرجة أعلى من الديناميكية والشمول.
وأود أن أختتم كلمتي بأن تحسين الحوكمة والمساءلة في إفريقيا ليس ممكنا وحسب؛ بل هو حادث بالفعل – كما سمعتم من الأمثلة الكثيرة التي أشرت إليها. وبالطبع، أمامنا أميال طويلة نقطعها في هذه الجهود. فهي عملية طويلة تتطلب إرادة سياسية قوية وجهدا متواصلا عبر الفترات الزمنية.
وبينما يتحرك كل بلد عضو في الصندوق في هذا الاتجاه، أود إعادة التأكيد على التزام الصندوق القوي بدور الشريك المؤتمن فيما تبذلونه من جهود. وهذا المؤتمر هو خطوة في هذا المسعى نحو ما قد يكون من أهم القضايا في عصرنا الراهن.
*نائب مدير صندوق النقد الدولي
*ألقيت الكلمة في افتتاح مؤتمر ” تعزيز الحوكمة الرشيدة ومكافحة الفساد في افريقيا” – من 13 إلى 14 حزيران 2022