الحزبية اليهودية بين صنمية الدين وعنصرية الانتماء والسياسة(فرح موسى)
أ.د.فرح موسى – الحوار نيوز
لقد تأخرت أمم الأرض،شرقًا وغربًا،مؤمنين،وغير مؤمنين،في التعرّف إلى حقيقة وطبيعة العرق الإسرائيلي الملتبس في دينه،وفي جميع تحولاته التاريخية والاجتماعية والسياسية. وما يؤسف له ويعجب منه،هو تآلف شعوب العالم، والغربي الأوروبي منه تحديدًا،ولعقود من الزمن،مع دعاوى اليهود لجهة ما يرونه لأنفسهم من تمايز إلهي بادعائهم أنهم شعب مختار،أو أنهم قوم خصّوا بالبنوّة لله تعالى،فقالوا،كما صرح القرآن الكريم:”نحن أبناء الله وأحباؤه..”.
وللأسف،فإن هذه المقالة المخادعة قد انطلت على كثير من الناس في الغرب رغم كل ما تناهى إليه من علوم ومعارف وفلسفات جعلته يرقى في العلم والتطور والمدنية،ويهبط في مستوى الإدراك والتعقل والوعي بحقيقة الخلق، فتراه يتعايش مع الخرافة والأوهام،وتأخذ به الدعايةُ إلى حد الإسفاف في الثقافة والسياسة والوعي بالذات والوجود.وقد لا يكون هذا الأمر مثيرًا للعجب طالما أن الغرب نفسه في القرن السابع عشر الميلادي رفض نظريات،”توماس هوبس”، الفلسفية،متهمًا إياه بأن أفكاره وكتابته كانت السبب في الطاعون، والحريق الكبير الذي أصاب لندن سنة١٩٦٦م،وكانت النتيجة إقدام البرلمان الإنكليزي على تحريم كتبه،ولعنه في الكنائس،حتى أن جامعة أوكسفورد حرّمت قراءة،أو تداول كتبه….؟
لسنا نعجب إطلاقًا من أن تستأثر الصهيونية واليهود بخرافة التمايز الإلهي،أو أن تتحول أكذوبة معاداة السامية إلى حقيقة معاشة وكأنها من ثوابت العلم والتاريخ،وكما قال “جوزيف بوريل”،الأوروبي مؤخرًا:”كفى تذرّعًا بمعاداة السامية كلما توجهنا بالنقد لأعمال وسياسات إسرائيل لتسوّغ لنفسها مخالفة القانون الدولي…”.
إن العالم اليوم،بعد طوفان الأقصى،ورؤية ما يجري في فلسطين من إبادة جماعية،عاد لقراءة تاريخه وصراعاته الحادة مع اليهود والحركة الصهيونية بكل امتداداتها الغربية،ولم يعد العقل الغربي غافلًا عما يجري من أحداث،فخرج في الشوارع والجامعات ليعبر عن موقفه،سواء في الدين،أو في السياسة،إذ لم تعد خرافة الصهيونية،ومحرقة الهولوكست هي الحاضرة في مخيّلته،أو المحرّكة له في وعي الحدث،بل نراه تجاوز ذلك إلى إدانة العنصرية اليهودية،وهذا ما نرى الغرب،أمة وحضارة،قد تأخر عن إدراكه ووعيه بعد أن استبدت به السياسات الغربية لدرجة أنها جعلته لا يميز بين نضوجه العقلي والعلمي وبين قبول الخرافات والمزاعم الصهيونية واليهودية.
وهكذا،فإن مفخرة أن تكون يهوديًا ،أو صهيونيًا،كما أعلن الرئيس الأمريكي ووزير خارجيته،لم تعد تشكل لشعوب أوروبا والغرب عمومًا أطروحة حياة،أو مدنية سلام وعدل وأمان؛وهي لم تعد ترق للغربيين،لكونها انكشفت عن عنصرية قاتلة لم يشهدها العالم في عصور النازية والفاشية.
ولعل الأغرب من ذلك كله،أن يستمع العالم بكل مؤسساته الدولية إلى إيديولوجية الكيان الصهيوني في فلسطين في ما أعلن عنه هذا الكيان من التزام بأسفار التوراة،وخصوصًا سفر “أشعيا”،للقتل والإبادة،ثم لا يبادر إلى المساءلة حول هذه الصنمية الدينية التي لم ينفك هذا الكيان عن العمل بها منذ تأسيسه.
فإذا كان العالم لم يستمع،أو لم يقرأ ما ينطوي عليه تراث اليهود من صنمية،فلا أقل من السؤال عن معنى حضور أسفار الموت مجددًا في الخطاب الصهيوني على لسان قادة الكيان،لتكون ترجمتها بالقتل والعدوان والإبادة الجماعية في فلسطين.
إن ما بيّنه القرآن الكريم عن هذه الصنمية جدير بأن تعاد قراءته والتدبّر فيه،وكذلك قراءة كل ما ينضح به التراث الديني،الذي يكشف لنا عن حقيقة هذا العرق بكل تشكلاته اليهودية في تاريخ البشرية، فهذه الأناجيل تحدثنا عن قتلة الأنبياء،وعن أولاد الأفاعي،وكم هو كلام النبي عيسى (ع ) كاشف عن مسارات الحزبية اليهودية في تاريخ الصراع مع أهل الإيمان،وأكثر ما يتجلى ذلك في خطابه إلى الصدوقيين والكتبة والفريسيين المرائين من اليهود وغيرهم ممن هجروا الناموس،واستووا على حرفية النصوص،وهموا بقتل الأنبياء والقدّيسين.ثم جاء القرآن الكريم ليعلن صراحة وبكل وضوح حقيقة هذا التشكل الحزبي في تاريخ بني إسرائيل، وما كان له من تحولات قاتلة في تاريخ الأميين العرب،فأشار إلى صنميتهم الدينية،وعنصرية انتمائهم الديني والسياسي،فقال عنهم:”وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم،فقالوا يا موسى اجعل لنا إلهًا كما لهم آلهةً،قال إنكم قوم تجهلون…”.
وهنا تبدو لنا المفارقة المدهشة،أنهم بعد عبور البحر، ورؤية المعجزة والحظوة الإلهية بهم ولهم،عادوا إلى تغليب صنمية المال والذهب على عقولهم ومعتقداتهم،تمامًا كما فعلوا ويفعلون في كل تاريخهم،وليس هذا ببعيد عما أحدثوه في عالمنا المعاصر من هيمنة وسيطرة على البنك الدولي،وصندوق النقد،وكل المؤسسات المالية ذات الطابع العالمي،فكل شيء اليوم بات محكومًا لهذه الصنمية اليهودية،وهذا ما انسحب على صنمية الأفكار وإيديولوجيات الناس بعد صنمية المال والذهب.
إنها الحزبية الدينية التي لم تروّضها تعاليم الأنبياء. وكما يقول الإمام الصدر في المقالة التي نشرتها صحيفة الحياة،عام١٩٦٨م،في خطاب الموقف الديني من المقاومة:”إن هذه الحزبية لم تقاتل لكونها بشرًا،أو لأنها غير مؤمنة،وإنما قوتلت لأنها تحولت إلى جرثومة تعيث في الأرض فسادًا،وتتسبّب بالأمراض للمجتمعات البشرية،فلا حرمة لها،ويجب أن تقطع كما يقطع الإنسان من جسده إذا ابتلي بمرض خبيث معدي…”.
إن الحزبية اليهودية،كما بيّنا في بحوثنا القرآنية،كانت ولا تزال تتغذى على الخرافات والأوهام ومزاعم الفرادة في الحق الإلهي، والتفوق العرقي.وقد عبرت عن نفسها بالصهيونية العالمية في استثمار فاضح للدين في السياسة،ما مكّنها،ولأسباب كثيرة،من أن تجعل من نفسها أنموذجًا للحكم والسياسة،متخذةً من فلسطين مركزًا لحيوية مشروعها في العالم،ومستفيدةً من تضليلات أهل الفكر والسياسة الغربيين،الذين لم يتوانوا إطلاقًا عن المخادعة بأن الكيان الصهيوني هو الدرع الحصينة للحضارة الغربية في مواجهة البربرية الشرقية،كما كتب هرتزل في كتابه”الدولة اليهودية”،ويكفينا هنا الإشارة إلى ما زعمه”بايدن”مؤخرًا،معبرًا عن صلف الإدارة الأمريكية،بقوله:”لو لم تكن إسرائيل موجودة،لكان اليهود في العالم تعرضوا لمخاطر جمة..”
لقد أوضحت الكتب المقدّسة،وبيّنت التجارب الواقعية حقيقة هذه الحزبية، إلا أن ما ارتكبه المسلمون من أخطاء،أدى بهم إلى أن يكونوا ضحايا لهذه الحزبية،ولو أنهم عقلوا عن ربهم لما كانوا قد حسبوا هذه الحزبية على وحي السماء كما فعلوا في مدوناتهم الفكرية،وفي تفسيراتهم للقرآن الكريم. ولسنا نبالغ في قولنا:إنه إذا كان القرآن قد دان الذين حملوا التوراة ولم يعملوا بها،وقال فيهم:إنهم كالحمار يحمل أسفارًا،فليس الذين حملوا القرآن ولم يعملوا به بأفضل حال من اليهودية وكل الأحزاب الدينية التي بدّلت وحرّفت وأنتجت العصبيات المقيتة في حياة الأمم والشعوب.؟
إن ما شاب كتب الحديث والتفسير من أخطاء في تثبيت الحقائق الدينية والوعي بها،هو الذي أدى إلى أن ينخدع الكثيرون بهذه الحزبيات،وخصوصًا الحزبية اليهودية،ويجعلوا منها وحيًا سماويًا،وتعبيراً إلهياً،غير واعين بحقيقة الفروق بين اليهود والذين هادوا في تاريخ بني إسرائيل،وكذلك في تاريخ الأميين العرب.إن الحزبية اليهودية عادت أدراجها بما أحدثه أهل الإيمان من تهاون وتجاهل وتجهيل للأمم بالقضايا المحقة،والتي كان من جملة ما ترتّب على ذلك،ضياع فلسطين وكل مقدسات المسلمين،وهذا ما سبق للإمام موسى الصدر أن حذّر منه،بقوله:”الأنبياء أنذرونا:أخرجوا اليهود من الجزيرة العربية،ولكننا لم نسمع حينما لم يكن لهم قاعدة،فكيف بنا في هذا اليوم وأمامنا هذا الخطر المتجسّم…”،(المصدر:صحيفة الحياة،العدد٦٩٦٤،تاريخ١٧/١٢/١٩٦٨).والسلام.
*رئيس المركز الإسلامي للبحوث والدراسات القرآنية.