كتب حلمي موسى من غزة:
أكثر الجيش الإسرائيلي مؤخرا من الحديث عن انتقاله من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة في حربه الهمجية على غزة. واهتم كثيرون بهذا الانتقال متسائلين عما إذا كان بدأ أم أنه سيبدأ، وإذا كان كذلك فمتى سوف يبدأ.
والواقع أن الاهتمام بهذا الانتقال لم يكن حكرا على الفلسطينيين في غزة المعرضين كل دقيقة للموت والدمار، ولا على الإسرائيليين من مستوطني غلاف غزة الراغبين في العودة إلى مستوطناتهم، ولا حتى على أهالي الجنود المعرّضين يوميا لاحتمالات القتل أو الإصابة على أيدي المقاومين. وربما أن أكبر اهتمام هو من نصيب موظفي الإدارة الأمريكية الراغبين في استخدام كل الأساليب، بما فيها غسل الكلمات، لتسهيل مهمة إسرائيل وتحقيق أهداف حربها.
ولذلك ثمة معنى عميق لكلام وزير الحرب يوآف غالانت يوم أمس أمام كتلة الليكود في الكنيست ،عندما وصف الانتقال من المرحلة “ب” إلى المرحلة “ج” في القتال في غزة بأنها “مصطلحات عسكرية داخلية”. وقال بشكل غاضب لأعضاء الكنيست إن “هذه مصطلحات عسكرية داخلية، وليست كل امرأة في مستوطنة “أوفكيم” و”سديروت” أو لديها نفوذ ،مؤهلة لإخبارنا بالمرور بهذه المرحلة أم تلك”. واعترف للمرة الأولى أنه حتى بعد العودة المتوقعة للمهجرين إلى المستوطنات في الجنوب فإنه “حتى عندما يعود السكان، سيكون هناك وابل من إطلاق النار”.
ولأن كلمات غالانت أطلقت نيرانا في اتجاهات غير متوقعة عاد ليشرح في تغريدة له على موقع إكس: “أنا آسف لأن هناك من اختار تشويه كلامي بطريقة التفافية. كان القصد من الكلام هو أن ” الانتقال بين المراحل كان يهدف إلى خلق لغة مشتركة بين المستويين العسكري والسياسي وليس لصالح الخطاب العام. سكان أوفكيم وسديروت كانوا وما زالوا في صدارة ذهني”.
وكان عضو الكنيست داني دانون قال لغالانت: “سمعت تقارير تفيد بأنك قررت التخلي عن احتلال محور فيلادلفيا ،وهو ما يتناقض تماما مع ما قاله رئيس الوزراء بشكل واضح لا لبس فيه. ونحن جميعاً ندرك أن حماس لن تهزم ما دام طريق التهريب الرئيسي، فيلادلفي، مفتوحاً. يجب على إسرائيل أن تتوحد حول هذه القضية وتوضح أن نزع السلاح الكامل للقطاع يشمل السيطرة الإسرائيلية على محور فيلادلفي”. فرد غالانت: “لم أقل أن ذلك لن يحدث، لكن السيطرة هناك أمر معقد ،وهناك أولويات بشأن هذه القضية. سيتعين علينا اتخاذ قرارات”.
وفي مقابلة نشرتها صحيفة “وول ستريت جورنال” مع غالانت قال إن الجيش الإسرائيلي سينتقل قريبا من “مرحلة المناورة المكثفة” إلى “أنواع مختلفة من العمليات الخاصة” في الحرب في غزة. وأكد أن إسرائيل لن تتخلى عن أهدافها التي تشمل القضاء على حركة حماس، وإطلاق سراح المختطفين، وإضعاف القدرات الحكومية لحماس في قطاع غزة. وأشار من ناحية أخرى إلى أن “القتال مستمر في خان يونس، على الرغم من العدد الكبير للمدنيين في جنوب قطاع غزة. وقال: “علينا أن نأخذ في الاعتبار العدد الهائل من المدنيين”، وأضاف أن الجيش الإسرائيلي كان عليه أن يعدل تكتيكاته حسب ما قاله. نتيجة لذلك “سيستغرق الأمر بعض الوقت، لكننا لن نستسلم”.
وأكد المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي العميد دانييل هاغاري مساء أمس في مقابلة مع صحيفة “نيويورك تايمز” أن الجيش الإسرائيلي “بدأ مرحلة جديدة وأقل حدة في القتال”. وعلى حد قوله، فقد بدأ الجيش بالفعل بالانتقال إلى المرحلة الجديدة، التي تتضمن عددًا أقل من القوات البرية والغارات الجوية. وقال هاغاري إن “الحرب غيرت مرحلة، لكن المرحلة الانتقالية لن تكون مصحوبة بمراسم أو تصريحات دراماتيكية”.
وكان هاغاري قد أعلن رسميا انتقال الجيش في حربه في غزة من المرحلة الثانية إلى المرحلة الثالثة. وتتلخص هذه المراحل، وفق المعلن بأن الأولى كانت القصف الشديد جوا وبرا وبحرا تمهيدا للمرحلة الثانية وهي العملية البرية بقوات مناورة كبيرة . أما المرحللة الثالثة فتقضي بتقليص نطاق المناورة البرية والاعتماد على العمليات “الجراحية” ، إما بوحدات كوماندو أو باستهدافات جوية أو حتى بغارات برية محدودة إذا تطلب الأمر. وبمعنى من المعاني المرحلة الثالثة تحتمل التهدئة والتصعيد والتنقل بين المراحل الثلاث والعودة إلى أي منها وقت الحاجة. وإذا كان لهذا من معنى فإنه لا يعني أبدا الفلسطينيين في غزة الذين لن يتغير واقعهم بشكل جوهري، إذ سيبقون وفق الرؤية الإسرائيلية في وضع المضغوط والمحاصر الذي ينتظر في كل وقت الضربة الإسرائيلية من حيث لا يتوقع.
فالمرحة الثالثة، في الرؤية الإسرائيلية لا تتضمن عودة أهالي شمال غزة إلى بيوتهم ولا تنهي الحرب عليهم وتبقيهم في ثلاث محافظات، غزة الوسطى وخانيونس وحتى رفح، إما في حالة حرب في مرحلتها الثانية كما يجري في مخيمات الوسطى وخانيونس، أو في وضع انتظار لما يريد أن يفعل الاحتلال في رفح ومحور فيلادلفي. ومعروف أن الغارات الجوية والبحرية والبرية الإسرائيلية لم تتوقف حتى الآن على مدينة غزة وشمالها رغم إعلان الجيش إنتهاء عمليات التطهير فيها.ولا تزال فرق عسكرية إسرائيلية بكاملها تخوض حربا في مخيمات الوسطى وخانيونس. كما يعلن الجيش عدم استبعاده قريبا العودة للعمل بمنظومات فرق في غزة وبيت لاهيا وجباليا.
وبديهي أن إحساس الجيش الإسرائيلي بالعجز يتفاقم مع استمرار المقاومة التي تكبده مزيدا من الخسائر في الأرواح، فضلا عن الخسائر المادية الكبيرة. ويزداد هذا الاحساس بالعجز كلما أفلحت المقاومة، كما فعلت أمس في اليوم الرابع والتسعين، في إطللاق صواريخ على تل أبيب وجوارها بصليات كبيرة. وربما ن هذا الاحساس هو ما دفع غالانت للاعتراف بأن مستوطنات غلاف غزة ورغم تدمير غزة ستظل تتعرض لإطلاقات نار من قطاع غزة، وليس كما تخيل هو في البداية من أنه سيسحق المقاومة وليس فقط تقليص قدرتها.
وهذا طبعا يقودنا إلى السبب الحقيقي للإعلان عن مراحل الحرب التي صارت أقرب إلى صنع عجة منها إلى عرض منظومة أفكار متسقة. والسبب يكمن في الإدارة الامريكية التي تريد من إسرائيل طوال الوقت التصرف وفق منطقها هي وقواعدها هي. وهي التي قالت من البداية بوجوب لجوء إسرائيل إلى استخدام قذائف أصغر وأقل تدميرا واقترحت على إسرائيل سبلا لتقليص خسائر المدنيين الفلسطينيين في الأرواح. وهي التي تطلب من إسرائيل السماح بعودة نازحي الشمال إلى ديارهم وتقديم معونات غذائية وانسانية لمن تبقوا هناك. وتقريبا منذ أكثر من شهر والمطالب الأمريكية هذه تتكرر من دون أن توحي إسرائيل بأي إشارة إلى أنها ستفعل ذلك.
واعترفت “يديعوت أحرنوت” بأن إحدى أهم دوافع إسرائيل للحديث عن المراحل الثلاث هي الرغبة في طمأنة الأمريكيين. وهذا ما يتضح من واقع أن أغلب التصريحات الإسرئيلية بهذا الشأن موجهة إلى الأذن الأمريكية وعبر وسائل إعلام أمريكية. كما أنها ترتبط بزيارات مسئولين أمريكيين. وهذه المرة الأمر مرتبط بزيارة وزير الخارجية أنطوني بلينكن الذي أعلن مرارا لاءات أمريكا ورفضها لطروحات عدد من وزراء نتنياهو، رغم استمرارها في تأييد أهداف الحرب الإسرائيلية ضد حماس.
وتنشر هذه التصريحات بالتزامن مع وصول وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى اسرائيل، والذي يقول مرارا وتكرارا إنه يأمل في زيادة المساعدات الإنسانية للقطاع وتقليل الضرر على المواطنين الفلسطينيين. سبب آخر للطلب الأمريكي هو الأمل في أن تساعد التصريحات حول خفض حدة القتال في غزة واشنطن في المحادثات التي تحاول قيادتها بهدف منع التصعيد على الجبهة الشمالية – وستسهل على حزب الله “النزول عن شجرة التصعيد” وتخفيف النار في الشمال.
في كل حال لا يعني الانتقال إلى المرحلة الثالثة قرب انتهاء الحرب وإنما تسهيل إطالتها. وهذا ما يبينه نتنياهو وغالانت في إعلاناتهما المتكررة بأن الحرب لن تنتهي – لا في الجنوب ولا في الشمال – وستستمر لعدة أشهر أخرى. وقال الطرفان: “لأشهر عديدة أخرى، هناك حاجة إلى هامش دولي للمناورة ونحن نعمل على الحفاظ على ذلك.